المصالحة العربية: أُسس موضوعية

تم نشره الخميس 19 آذار / مارس 2009 05:22 مساءً
د. وحيد عبد المجيد

يبدو المشهد العربي بين قمة الرياض المصغرة في الأسبوع الماضي وقمة الدوحة الدورية في نهاية الشهر الجاري مبشراً ومقلقاً في آن معاً فقد فتحت قمة الرياض الرباعية باباً جديداً للأمل في إمكان تجاوز الانقسام الذي أضعف الوضع العربي خلال السنوات الخمس الأخيرة، وشجع قوى إقليمية على الاستهانة به.

 

ومن شأن فتح أي باب للأمل أن يحمل بشرى على أعتاب قمة دورية جديدة في ضوء تجربة القمة السابقة في دمشق العام الماضي وقد يكون الباب الذي فتحته قمة الرياض كافياً للعبور إلى هذه القمة في وضع أفضل من ذلك الذي عُقدت في ظله القمة السابقة، وأدى إلى خفض غير مسبوق في تمثيل دول عربية رئيسية فيها. غير أنه ليس هناك ما يدل، حتى اليوم، على أن هذا الباب يكفي للعبور إلى مصالحة عربية. فهو يبدو أضيق من أن يسمح بذلك، لأنه لم يُفتح بعد على مصراعيه وإذا كان الجليد الذي اعترى العلاقات بين الرياض ودمشق قد أُذيب بعضه، فما أُزيل منه على صعيد العلاقات المصرية -السورية يبدو أقل.

 

 

وكان هذا واضحاً في حديث المستشارة الإعلامية في الرئاسة السورية عن قمة الرياض في لقاء صحافي عقدته في دمشق غداة هذه القمة ، فقد ميزت بوضوح بين اللقاء الثنائي الذي جمع العاهل السعودي والرئيس السوري، واللقاء الرباعي الذي ضم معهما الرئيس المصري وأمير الكويت، وصفت اللقاء الثنائي بأنه كان ممتازاً وأن العاهل السعودي "كان أكثر من رائع" في علاقته مع الرئيس السوري، فيما كان تقديرها للقمة الرباعية بأنها عُقدت في "أجواء إيجابية بنَّاءة" ، والفرق بين الممتاز والإيجابي كبير، ويعني أن المسافة السياسية اليوم بين القاهرة ودمشق أبعد منها بين السعودية وسوريا، وأن قمة الرياض لم تحقق بالتالي الاختراق الذي توقعه كثير من المراقبين.

 

 

ورغم أن هذه النتيجة التي حققتها قمة الرياض لا تبدو مبشرة بتجاوز الانقسام العربي قبيل قمة الدوحة، فالأمر لا يبدو باعثاً في الوقت نفسه على قلق شديد، فعلى مدى ما يقرب من خمس سنوات، وحتى شهور قليلة مضت، كانت العلاقات السعودية -السورية هي العقدة الأكثر استحكاماً في هذا الانقسام، ووصل الأمر إلى حد أنه لم يكن ثمة ضمان لأمن السفير السعودي لدى لبنان عندما شنت ميليشيات متحالفة مع دمشق هجمة مايو العنيفة على بيروت، فقد تدهورت العلاقات السعودية -السورية، منذ اغتيال الحريري في فبراير 2005، إلى مستوى لم تبلغه منذ ستينيات القرن الماضي وكان هذا التدهور أحد الأسباب التي أدت إلى توتر العلاقات المصرية -السورية بدورها، لكن عند مستوى أقل.

  

ولذلك كان دعاة تصحيح العلاقات العربية في مصر يطالبون حكومتهم بأخذ زمام المبادرة لفتح حوار مع سوريا يمهد لدور تقوم به في إعادة مد الجسور بين الرياض ودمشق. وكانت هذه هي الحال حتى بعد العدوان الإسرائيلي على لبنان صيف عام 2006، والذي أدى إلى مزيد من التباعد بين السعودية ومصر في ناحية وسوريا في الناحية الأخرى.

 

 

كانت المسافة السياسية بين القاهرة ودمشق أقصر منها بين العاصمتين السعودية والسورية لكن هذا الوضع اختلف في الشهور الستة الأخيرة على وجه التحديد، وخصوصاً منذ أن اشتدت الحملة التي استهدفت مصر تحت شعار فتح معبر رفح، وتزامنت مع تصاعد التوتر بين القاهرة وطهران ، واشتد التباعد مع بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في 27 ديسمبر الماضي، حيث تعرضت مصر إلى اتهام بالتواطؤ مع هذا العدوان ، ورغم أن دمشق لم تتورط في ذلك رسمياً أو بشكل مباشر، فقد شارك إعلامها الرسمي في الحملة على مصر التي استقبلت ما اعتبرته دوراً سورياً في هذه الحملة بمزيج من الغضب والمرارة.

 

وحدث ذلك بينما كانت الأمور قد هدأت بين الرياض ودمشق بفعل الزمن الذي لا يمكن الاستهانة بأثره، وربما أيضاً نتيجة لاطمئنان السعودية إلى أن الحقيقة في قضية اغتيال الحريري ستُكشف يوماً ما من خلال تفعيل المحكمة الدولية المختصة بهذه القضية.

 

 فعندما تصدى العاهل السعودي في قمة الكويت للدعوة إلى مصالحة عربية كان العد التنازلي الأخير لإطلاق المحكمة الدولية قد بدأ كما أن سوريا التي رُفع سيف الضغط الأميركي عنها في ظل إدارة جديدة تتجه إلى الحوار معها، أصبحت في وضع أكثر راحة واطمئناناً مما كانت عليه حين استهدفتها الإدارة السابقة وسعت إلى عزلها ومحاصرتها.

 

 

لذلك أصبحت العلاقات السعودية -السورية مهيأة لتقارب لم تتوفر مقوماته بعد بين القاهرة ودمشق اللتين نجحت قمة الرياض، مع ذلك، في البدء بإزالة الجليد بينهما، فلم تمض سوى أسابيع قليلة على وقف الحملة التي استهدفت مصر ودورها العربي والإقليمي، وسيحتاج الأمر إلى بعض الوقت قبل أن تتمكن مصر من تجاوز أثر هذه الحملة، لعل هذا هو ما قصده مبارك في كلمته بمناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف في اليوم السابق مباشرة على قمة الرياض. فقد قال "إن مصر تجاوبت مع دعوة المصالحة التي أطلقها أخي خادم الحرمين الشريفين، وذلك رغم استمرار البعض في مواقف تلقي بظلالها على أجواء المصالحة وتعكس مخططات معروفة من خارج المنطقة العربية".

 

 

ويصعب تقدير المدى الزمني اللازم لتجاوز الأثر السلبي الذي تركته المعارك السياسية والإعلامية العربية -الإقليمية خلال وبُعيد حرب غزة على العلاقات المصرية -السورية ، وبغض النظر عن نتائج الحوار الوطني الفلسطيني، الذي توليه مصر اهتماماً فائقاً، فثمة ما يدل على أنها في سبيلها للاقتناع بأن سوريا لا تعرقل دورها في هذا الحوار ولذلك ستذهب مصر إلى قمة الدوحة بموقف أكثر انفتاحاً على سوريا من ذلك الذي بدا في قمة الرياض.

 

 

ومع ذلك، ففي كل الأحوال وأياً تكن الأجواء التي ستُعقد في ظلها قمة الدوحة، يصعب التطلع إلى مصالحة عربية ذات طابع استراتيجي بدون مقومات موضوعية يتم التوافق عليها.

 

 

وقد أحسن مضيفو القمة العربية الرباعية صنعاً عندما لم يبالغوا في نتائجها، فكان البيان الصحافي الذي صدر عنها محدداً وواضحاً في أنها "تمثل بداية لمرحلة جديدة تسعى فيها الدول الأربع لخدمة القضايا العربية بالتعاون فيما بينها" ، كما أن عبارة "الاتفاق على منهج موحد للسياسات العربية"، والتي وردت في البيان، دقيقة في التعبير عن هذه النتائج. فالمنهج الموحد لا يعني سياسة موحدة أو حتى مشتركة، وإنما طريقة يتم التوافق عليها لمعالجة القضايا الخلافية التي مازالت قائمة، وفي مقدمتها السياسة الإيرانية التي تعتبرها السعودية تحدياً وتنظر إليها مصر باعتبارها خطراً فيما تراها سوريا من زاوية إيجابية.

 

ولما كان الخلاف كبيراً بين مصر والسعودية من ناحية وسوريا من ناحية أخرى على كيفية التعامل مع إيران، يمكن أن يكون الاتفاق على منهج لمعالجة هذا الخلاف مؤدياً إلى تفاهم في مرحلة تالية على كيفية التعاطي معه حين يتم التوافق على المصلحة العربية العليا في هذا السياق.

 

ويتوقف مثل هذا التوافق على استعادة الثقة التي تراجعت كثيراً بين الدول العربية الثلاث ، فالثقة المتبادلة ضرورة لا بديل عنها لإطلاق حوار جاد موضوعي لا يقتصر على المسألة الإيرانية، وإنما يضعها في إطار أوسع نطاقاً يشمل مستقبل منطقة الشرق الأوسط وموقع العرب فيها وكيفية تعاملهم مع القوى غير العربية عموماً.

 

فإلى جانب تمدد النفوذ الإيراني في المنطقة، وتنامي دور تركيا على نحو قد يتطور باتجاه منافسة طهران، يبدو التهديد الإسرائيلي ماثلا ليس فقط في تصاعد الاعتداءات المسلحة ولكن أيضاً في اشتداد التطرف السياسي والنزعة العنصرية.

 

 

لذلك فقد حان وقت السعي إلى توافق عربي على مشروع متكامل يضع قواعد متفقاً عليها للتعاطي مع إسرائيل وإيران وتركيا، وإثيوبيا أيضا في ضوء الخطر الذي يهدد مستقبل السودان والصومال. وعندئذ فقط يمكن الحديث عن أُسس موضوعية لمصالحة تمثل بداية حالة نوعية جديدة في أداء النظام العربي الرسمي يمكن فيها سد الفراغ الذي أغرى إيران بمد نفوذها والتطلع إلى دور يفوق حجمها الحقيقي، وشجع إسرائيل على الاستهانة بالعرب جميعهم وليس فقط بالفلسطينيين وفصائلهم المتناحرة.

 

 

 الاتحاد الاماراتية



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات