مع هيكل .. كلاكيت أول مرة وآخر مرة
إذن المشهد برمته تسوده حالة تفاؤل ما عدا، محمد حسنين هيكل، الذي كان بائساً منزوياً يعيش وحده ينتظر زائر صدفة، أو باحثاً عن معلومة، لحقبة كانت عبارة عن وهم كبير وكذبة أكبر بفضل ألاعيب هيكل، وأحمد سعيد، ومحمد عروق، ومحمد عبدالقادر حاتم، وزير الارشاد القومي المصري المعجب بغوبلز، وزير الدعاية الهتلري، حيث نقل عنه مبدأ ''اكذب ثم اكذب'' حتى يصدقك الآخرون، فكانت سمة إعلام الجمهورية العربية المتحدة آنذاك الكذب والتلفيق فيما كان التصفيق يصم آذان المارد العربي إلى أن حانت لحظة السقوط الكبير لكل أفراد الجوقة لينتهوا بين منتحر أو سجين أو هارب أو معزول استقر في بيته منتظرا قضاء الله وقدره، وبسقوطهم انتهت أكبر خديعة شكلت فصلاً أسود من تاريخ أمة العرب التي لا تستحق كل هذا التضليل والغش الذي أتاها ممزوجاً بالموسيقى والغناء فطربت وتخدرت أطرافها حتى فاجأتها النار في ست ساعات، فصحت وصاحت لكن بعد فوات الأوان.
نعود إلى هيكل الحزين ذلك الصيف، حيث كان برنامج الدورة يتضمن لقاء وزير الإعلام آنذاك المرحوم عبد المنعم الصاوي، وعندما قابلناه تحدث عن هيكل بازدراء معدداً سوءاته منذ بواكير عمله الصحفي عندما كافأ وليي نعمته الأخوين علي ومصطفى أمين اللذين منحاه فرصة العمر بالعمل في صحيفة ''الأخبار'' وكان لهما فضل دعمه وتقديمه للقراء والمسؤولين في مصر وخارجها، بأن أطاح بهما وبدافع من حقد متأصل في نفسيته كونهما يتصلان بصلة قربى بزعيم الأمة سعد زغلول، ولأنهما بذكائهما المتقد وتحصيلهما العلمي المتقدم كانا ألمع صحفيي مصر في ذلك الوقت، فكان لا بد من التخلص منهما فزجّ بـ''مصطفى'' في السجن بعد ان لفّق له تهمة التجسس، وهرب علي خارج مصر ولم يعد إليها إلا عندما تولى الرئيس السادات سدة الحكم الذي افرج عن ''مصطفى'' وعاد علي إلى مصر ليقضي الاخوان امين ما بقي من حياتهما في بلدهما، وليس مروراً باتصالاته مع الاميركان تارة ناقل اخبار او اخباريات وتارة ناقل رسائل باسم مجلس قيادة الثورة، وليس انتهاء بمنعه من السفر بأمر المدعي العام، في الوقت الذي كان يحدثنا فيه وزير الإعلام عبدالمنعم الصاوي (1977) عن تهمة سرقة وتهريب مواد صحفية ووثائق من ''الاهرام'' للخارج مدعيا بأنها مُلك له بينما تقول وزارة الإعلام إنها مُلك لـ''الأهرام'' وبالتالي للدولة كون ''الأهرام'' إحدى مؤسسات الإعلام الرسمي وقالت ''الأهرام'' إن الوثائق المهربة بعضها صور منسوخة عن أصل وبعضها أصول لا يجوز اخراجها وفي اللقاء ذاك قال الصاوي: ''إننا لم نقطع رزقه وتركناه يعتاش مما يكتب ولسنا معنيين بكمية الكذب في الذي يكتبه طالما نعرف الحقيقة''، وسألني فجأة كم تدفعون له انتم في ''الرأي'' الأردنية لقاء كتاباته عندكم، وكانت اجابتي: إننا ندفع لدار النشر التي أعطاها هيكل حق نشر مقالاته في صحف عربية ولا أعرف كم يتقاضى هو من دار النشر.
انتهى اللقاء وكان برنامج اليوم التالي يتضمن زيارة لخط بارليف والاجتماع مع قائد الجيش الثاني المصري اللواء أحمد بدوي، في مقر قيادته في سيناء واجراء حوار معه على مائدة الغداء (اللواء بدوي توفي بعد ذلك بسنتين في حادث سقوط مروحية) .
ما اثار استغرابي ان يتحدث اللواء احمد بدوي وهو عسكري محترف باللهجة الهجومية نفسها تجاه محمد حسنين هيكل، ما دفعني لسؤال اللواء بدوي عن سبب هذا الغضب على هيكل، فكانت اجابته انه احد اسباب هزيمة حزيران التي ألحقت العار بالعسكرية المصرية، ولدى سؤاله عن مزيد من الايضاح قال هذا الشخص ضلل عبدالناصر وغطى على ممارسات أعوانه امثال: عبد الحكيم عامر، الغارق بين أحضان الغانيات حتى فجر المعركة وصلاح نصر، مدير المخابرات الذي كان همه اغتيال سمعة الناس الشرفاء والزجّ بهم في السجون بعد تلفيق شتى أنواع التهم اليهم واشرف مروان وسامي شرف، وبغدادي واعوانهم الذين يمكن الرجوع الى سيرهم واسرارهم في عشرات الكتب بأقلام ضحاياهم من السياسيين والعسكريين والكُتّاب والمفكرين وحتى أصحاب الاملاك والفنانات.
عدنا من زيارة سيناء وخط بارليف مساء وانتظمنا في اليوم التالي ببرنامج الدورة الأكاديمي، وكان احد المشرفين عليها الاستاذ محمد سلماوي، رئيس القسم العربي والدولي في ''الأهرام''، وهو من الصحفيين الذين عيّنهم هيكل وصار صديقه في ما بعد ومن المعجبين به، لدرجة تقمّص شخصيته في الكلام وتدخين السيجار الفاخر، وطريقة المشي وعند انتهاء محاضرات ذلك اليوم وقبل أن ننصرف إلى مكان اقامتنا اقترب مني الأستاذ سلماوي وقال: هل تريد مقابلة الأستاذ هيكل؟ وفهمت على الفور انه رتب لي ولزميلي الأخ عمر عبنده للقاء الأستاذ هيكل فأجبته ماذا عند هكيل؟ انه خارج دائرة الأحداث الآن.. أصر الأستاذ سلماوي على اجراء اللقاء وكنت في الواقع، أرغب في اللقاء لكنني أرغب في الاصرار أيضاً.
ذهبنا في اليوم التالي عند الساعة الخامسة عصراً إلى مكتب الأستاذ هيكل في الطابق الرابع من البناية الملاصقة لفندق شيراتون المشؤوم حيث اغتيل الشهيد وصفي التل العام 1971 على أيدي أفراد من عصابة أيلول الأسود بتواطؤ وتسهيل من الأجهزة المصرية ومن ضمنها هيكل الذي مهد للاغتيال بمقالات في ''الأهرام'' قبل أيام من زيارة أبو مصطفى إلى القاهرة تعج بالعداء للحسين ولوصفي وللأردن، وتحرض على الشهيد بما يقترب من الدعوة إلى قتله (راجع اعداد الأهرام قبل 28/11/1971 بأيام) .. رحّب بنا هيكل بلطف شديد وبعد ان سألنا ماذا نحتسي قال انه وافق على اللقاء لانه يكتب في ''الرأي'' ولانه يحب الأردن وجلالة الملك حسين، والشعب الأردني وهنا قلت له انني كصحفي على أول الدرب ارغب في مقابلة صحفي كبير مثلك لكنني كما فهمت من الاستاذ سلماوي وكان جالساً إلى جواري بأنك أنت أو هو من رتّب اللقاء، فنحن زميلي وأنا لا نعرف كيف نقابلك لو رغبنا بذلك فلا عنوانك نعرفه ولا أرقام هواتفك، ولدينا انطباع بأن مواعيدك معدة لستة أشهر ولا يمكن لأحد ان يقابلك بعد يوم او يومين من طلب المقابلة، وهنا تدخل سلماوي قائلاً: ''في الواقع انا ويقصد هو من بادر لترتيب اللقاء، وبسرعة انتهى الحديث عن هذه النقطة حيث بادرنا هيكل بالسؤال مرة أخرى عن الأردن وعن جلالة الملك وتحدث عن لقاءاته مع جلالته وعن الود والاحترام اللذين يكنهما له وذلك كمفتاح لحديث أراد من خلاله الرد على ما قاله عنه عبد المنعم الصاوي، وزير الإعلام، واللواء أحمد بدوي، قائد الجيش الثاني المصري، وهذا هو سبب المقابلة لا أكثر ولا أقل.
عندما بدأ هيكل الحديث رداً على ما قاله الصاوي وبدوي قلت له: ''هل الحديث للنشر''، فرد بالايجاب. فقلت: ''إذن سأنشر ما قالاه لأنهما عندما تحدثا لم يكن الحديث لـ''الرأي'' فقط كما هو الآن ولم يكن لغايات النشر بل حوار مع وفد عربي كبير لصحفيين مشاركين في دورة، ويقتضي ذلك ان تجيب على أسئلة كثيرة بعضها يتعلق بك شخصياً مثل اتهامك باقصاء الاخوين امين وعلاقتك بالأميركان وبعضها يتعلق بادارة كنت احد اعمدتها ارتكبت مئات الأخطاء أدت إلى هزيمة الأمة كان من بعضها مثلاً تصعيد الموقف مع إسرائيل بينما هناك 70 ألف جندي في اليمن ومن بينها ايضا تخريب العلاقة العربية العربية الذي كنت احد اسبابه من خلال مقالاتك في ''الأهرام'' يوم الجمعة بعنوان ''بصراحة'' وغيرها من الأخطاء التي ما زال ملايين العرب يرغبون بالعثور على ايضاحات حولها، وحتى لا استمر بسرد ما في جعبتي قاطعني هيكل قائلاً: ''إذن لا داعي للنشر لأنني لا أرغب بنشر الغسيل المصري على الحبال العربية''، وهنا قاطعته: ''ان الغسيل المصري نظيف لكن الغسيل غير النظيف هو غسيل أناس تعرفهم''.
إن هيكل الذي يتهم الأشراف بالمعقدين هو من يمتلئ بالعقد المركبة وإلاّ ما معنى ان يصب حقده على الاخوين امين لأنهما ينحدران من أسرة عريقة؟ وهل يدل نكرانه لجميلهما وفضلهما عليه الا على نفس معقدة ومريضة؟ وما معنى اساءته للرئيس السادات في كتاب ''خريف الغضب'' عندما عاب عليه فقره وسواد لون بشرته؟.
ان هيكل الذي يعتقد انه يمتلك الحقيقة والتاريخ والماضي ببضع اوراق بين يديه يسميها وثائق، ينسى ان غيره لديه اضعاف ما لدى حضرته من اوراق ووثائق اكثر صدقية من وثائقه، واذا ما لجأ لنبش اوراقه فلدينا اوراقنا ايضاً ومنها ما يدينه شخصياً فنحن نعرف من أين حصل على المال الذي انشأ فيه مركز الاهرام للدراسات؟ ونعرف ان التمويل كان مزدوجاً من كل من إيران ايام حكم الشاه ومن الولايات المتحدة ما اتاح لهيكل ان يملأ جيوبه بفائض الدولارات، ونذكر هيكل بأن ما اخفاه عن المال كمية ومصدرا كشفه بجرأة وصراحة المرحوم الأستاذ سليم اللوزي رئيس تحرير مجلة الحوادث اللبنانية الذي حصل على تمويل مماثل لانشاء مركز المعلومات في المجلة.
وهل يعتقد السيد هيكل ان الناس من السذاجة بحيث تصدق انه كان يقيم بالصدفة في نفس الفندق الذي يقيم فيه جلالة الملك الحسين رحمه الله في باريس وانه التقاه بناء على طلبه، وانه بالصدفة ايضاً كان يقيم في فندق كلاريجدز في لندن بنفس الوقت الذي كان الحسين يقيم فيه بالفندق فقابله مرة اخرى؟ وهل كان الحسين عندما كان صبياً صغيراً ينزل مع والدته في فندق شبرد بالقاهرة يطلب لقاء هيكل حتى يقول انه يعرفه منذ ذلك الوقت؟.
الا يتفوق هيكل عن غيره باتقان الكذب منذ ان كان صانع قرار مصر الاعلامي واحد صانعي القرار السياسي الخائب؟
كلما شاهدت هيكل وهو يتحدث عن حقبة كان احد ابطالها، اتساءل ما الذي كان يمكن ان يقوله هذا الرجل لو ان تجربته وتجربة نظام حكمه نجحت؟ وكيف يجرؤ احد صناع الهزيمة على مواجهة الجماهير دون أي احساس بالخزي وكأنه لا علاقة له بالمأساة التي ألحقها ونظامه بالعرب؟.
الجواب ببساطة ان الذين استحوا ماتوا..
الرأي