"أم القمم": العبور من الاختلافات إلى عصر التفاهمات
يمكن أن نطلق على القمة العربية المنعقدة في العاصمة القطرية الدوحة «أم القمم» بامتياز وعن استحقاق وجدارة، لأنها تشكل مرحلة العبور بالعلاقات العربية - العربية من ضفة إلى أخرى تبدو وكأنها الأكثر دقة وحساسية في التاريخ المعاصر.
وعشية هذه القمة كانت الآراء متباينة في توصيفها وما هو المؤمل منها. فالملك عبدالله بن عبدالعزيز، صاحب المبادرة الوفاقية، يقول في توصيفه للحدث: «لقد حفرنا حفرة عميقة ودفنّا فيها كل الخلافات إلى غير رجعة»، فيما الرئيس السوري بشار الأسد يبدي تحفظاً بقوله: «... إن الخلافات القائمة لا يمكن التوصل إلى حلول لها بقمة واحدة أو اثنتين، لكنها بداية مشجعة». ويضيف: «نحن في طائرة وفيها 22 طياراً، لست أنا الطيار الوحيد لأقول أين ستصل تماماً، لكن النيات أن ننتهي من الخلافات، ليس بمعنى إلغاء الخلافات، فكل يوم لديك موضوع جديد، وكل يوم لديك خلاف وهذا طبيعي، والسؤال كيف ندير الخلاف؟ وهذا هو المصطلح الذي طرحته وركزت عليه في القمة الرباعية التي انعقدت في الرياض. وطالما أن الظروف مختلفة فليس من المنطقي أن يكون لدينا رؤية أو رؤى متطابقة وليس من المنطق أن نكون متطابقين. لكن مشكلتنا كعرب كيف ندير الخلافات؟ فمثلاً أنا إذا أردت أن اختلف مع لبنان حول موضوع، فربما اتفق معه حول موضوع آخر، فلماذا اختلف معه كلياً. سيكون هناك تعاون في موضوع، ويكون هناك اختلاف في موضوع آخر».
ولعل لبنان أكثر الدول متابعة لقمة الدوحة لمعرفة مدى انعكاس نتائجها على حالة التجاذب الحاد القائمة. وإذا كان لبنان دفع الأثمان الباهظة للخلافات العربية، وغير العربية، هل سيقطف ثمار عهد الوفاق العربي؟ أم أنه دافع الضرائب باستمرار إذا اختلف العرب، وإذا تصالحوا؟!
وعلى صعيد العلاقات اللبنانية - السورية والتي يعبر عنها خط بياني شديد التعرج من تراكم الخلافات منذ عهد «الوصاية» وما بعده، فقد أعلنت دمشق قبل ايام عن تعيين علي عبدالكريم علي سفيراً في بيروت، الأمر الذي يحدث للمرة الأولى منذ الاستقلال. ولقيت هذه الخطوة الترحيب من «الفصائل اللبنانية» كافة ولو بدرجات متفاوتة.
وفي سياق متصل يمكن التوقف عند ما أدلى به جفري فيلتمان مساعد وزيرة الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط بالوكالة، في شهادة له أمام اللجنة الفرعية للشرق الأوسط التابعة للجنة الدولية في مجلس النواب، من أنه حرص على الحضور إلى لبنان أولاً قبل زيارة سورية للتأكيد «على أن السياسة الأميركية حيال لبنان غير قابلة للضعضعة»! (غير مفهوم تماماً القصد من استخدام هذا التعبير) ، وفي الشهادة نفسها قال: «سيكون لسورية نفوذ في لبنان بسبب العلاقات المشتعبة، لكن ذلك يجب أن يكون على أساس الاحترام المتبادل». وهذا الكلام ينطوي على إقرار ضمني بـ «دور ما» لسورية في لبنان ، ويتزامن مع متغيرات واضحة في مواقف بعض الزعماء اللبنانيين والتي تشكل نقطة تحول وانعطاف شديد الوضوح نحو «ترميم» العلاقة مع سورية، وأبرز ما يشار إليه في هذا الإطار بالذات، التصريحات الأخيرة لرئيس اللقاء الديموقراطي الاستاذ وليد جنبلاط وموقفه الجديد «المعتدل» من حيث تأكيده على أن معاداة سورية لا يمكن أن تكون إلى الأبد.
ومثل هذه المواقف يعيدنا إلى القمة العربية في الدوحة والنتائج التي ستسفر عنها، ومدى انعكاس ذلك على الساحة اللبنانية الغارقة في هذه الأيام إلى فوق اذنيها بالحمى الانتخابية. واستناداً إلى آراء الرئيس بشار الأسد حيال الوضع في لبنان «ان لبنان يعيش على التوافق وينفجر في غياب التوافق وليس بالانتخابات».
وإذا كنا قد خصصنا حيزاً رئيسياً من هذا المقال للتركيز على موافق دمشق من أحداث لبنان والمنطقة فلأن سورية لعبت ولا تزال دوراً محورياً في غير اتجاه، من لبنان الى العراق مروراً بفلسطين. ومن هذا المنطلق سجلت دول «الممانعة» العديد من النقاط لصالحها وتمكنت من فرض وجودها كلاعب اساسي في تحديد مستقبل المنطقة ، وهذا يقود بالتالي الى رغبة الرئيس الاميركي باراك اوباما في طرح مسألة الحوار مع سورية وايران وفق معادلة «جزء من الحل، وليس جزءاً من المشكلة» فحسب. على ان ردات الفعل التي صدرت حتى الآن من دمشق وطهران تحمل طابع المناورات السياسية.
ومن المفارقات الغريبة انقلاب الأدوار في أداء الدول المعنية بالوضع العام في المنطقة. ففي السابق كانت واشنطن في موقع من يملي الشروط على ايران، ليس لتغيير النظام وقد فشلت جميع المحاولات التي جرت بهذا الشأن، فتغير الشعار الى المطالبة بتغيير سلوك النظام الايراني، فجاء الرد بمطالبة طهران ادارة الرئيس اوباما بتغيير سلوك النظام الاميركي!.
ويشير بعض المتابعين لمسار أزمة الملف النووي الايراني الى ضرورة تنبه طهران لأي قراءة خاطئة لمواقف الاعتدال والانفتاح على الحوار والرغبة في تفضيل الخيار الديبلوماسي على أي خيار عسكري من قبل الادارة الاميركية الجديدة، واعتبار هذه المواقف وكأنها اشارات ضعف، وينصح اصحاب هذا الرأي القيادة الايرانية بالإفادة من الظرف المتاح، ومقابلة الطرح الاميركي بطرح ايجابي، وفق المعادلة القائلة: تكريس الدور المحوري لإيران على صعيد الاقليم مقابل انقاذ ماء الوجه الاميركي بالانسحاب التدريجي من العراق وحتى من افغانستان.
الآن، ماذا بعد؟
* اذا كانت الخلافات العربية ادت الى هذه الحالة من النزيف «القومي» و «القطري» معا، فإن أجواء المصالحات تحتاج الى جهد كبير للحفاظ على مكتسباتها خشية العودة الى الشرذمة والتصدع من جديد.
* من مآسي الواقع العربي الراهن أن الرئيس السوداني عمر البشير هو «نجم» القمة الذي حظي باهتمام كبير سرق تحركات طريد «العدالة الدولية» مقارنة بالقضايا الأكثر جدية.
* في الخطاب الأخير لخادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز أمام مجلس الشورى قال كلاماً لافتاً، ومن ذلك «ان المساعي ستتواصل حتى يزول كل خلاف، مدركين أن الانتصار لا يتحقق لأمة تحارب نفسها». وشرح الاسباب التي دفعته الى استعجال عقد القمة والمصالحات بـ «اعتبار أن الشعوب العربية ترى أن مصيرها مهدد من الآخر وتشعر بأن آمالها مبعثرة ومستقبلها مظلم».
وحول القضية المركزية الأولى التي ستأخذ الجهود المكثفة في مداولات الزعماء العرب، قال الملك عبدالله: «ان الانقسامات بين الفصائل الفلسطينية أخطر من عدوان اسرائيل». مختتما بالقول: «إن الخلاف العربي والاسلامي يسر العدو ويؤلم الصديق».
* وعود على بدء الى «أم القمم» العربية في الدوحة، العاصمة القطرية التي اختلف العرب فيها في «قمم بمن حضر» كما شهدت بعض المصالحات، والأمر كله يتوقف على درجة الصدقية والثقة والنيات الصافية لقادة الأمة، وعودة مرة أخرى الى مواقف الرئيس بشار الاسد الذي يقول: «ان المصالحات العربية هي كالطائرة في مرحلة الاقلاع ويمكن أن تتعرض عملية الاقلاع الى بعض الاشكاليات». ويقول وزير الخارجية السوري وليد المعلم: «كانت الأجواء قاتمة بيينا وبين المملكة العربية السعودية لكن لا أدري ما هي أسباب ذلك؟».
عسى أن تعثر قمة الدوحة على هذه الاسباب والاسباب الاخرى لحالة الضياع العربي.
* كاتب واعلامي لبناني
الحياة