قـوس الـدم
لا يرتوي تراب العراق من الدم ، عطشان هو للدم ، منذ الف عام ، او يزيد ، لا يرتوي تراب العراق من الدم ، وفي ذكرى سقوط بغداد اليوم ، تدمع عيناي ، فمن القدس الى بغداد ، حكاية عشق تاريخية ، حتى ان الفارس العربي الذي حرر القدس ، له في العراق ، اصل ومنبت ، من شماله الكردي ، الى وسطه وجنوبه العربي.من احتل بغداد ، يعرف انه سرق القلب العربي النابض ، وقدر العراق هذا حزين جدا ، وعباءات العراقيات المتشحة بالسواد تقول لك ، ان قدر العراق كان من سر اسم مدينة "كربلاء" والكرب والبلاء ، لا يفارقان العراقيين ، حتى كأن تكبيرات الشهداء ، منذ اول الفداء الحسين رضي الله عنه وارضاه ، حتى اخر شهيد سقط على ارض فلسطين ، وقوس الدم المنصوب فوق العراق ، لا يغيب ، وكأن تراب العراق لا يرتوي ابدا ، ولا يريد ان يرتوي ، ابدا.كانت بغداد عربية ، ففي عز ضنكها وجوعها ، لم تنس العرب ، وعرب اليوم ، يسألون العراقي في كل مطار بشك الدنيا ، عن وجهته ، يحدجونه بغضب ، وكأن العراقي ، العربي الوحيد المشكوك فيه ، والعراقي ، يحمل في صوته حزن الدنيا ، قارئا للقرآن ، ام منشدا ، ولا تجد في اي لغة عامية عربية ، كل هذا القدر من مفردات التعبير عن الحزن الموروث ، الا في مفردات العراقي ، وكل تلك القسوة التي يجدها بعضنا في شخصية العراقي ، قسوة شرعية ومشروعة ، اذ ورث العراقيون الحزن والغضب والحدة ، عبر مئات السنين الدموية ، والنخلة العراقية لا تموت الا واقفة ، لكنها ايضا ، ارتوت من دم العراقيين ، فجاء ثمرها ، غذاء لروح العراقي الغاضبة ، وشربة الماء من دجلة والفرات ، لم تعد شربة الحروف التي نعرفها ، ولا لمسة الفنانين ، ولا صوت المطربين ، ولا يد الرسامين ، فقد ابى الاحتلال الا ان يجعل النهرين مدفنا لابرياء العراق ، والسمك المسقوف اليوم ، يتغذى على الضحايا ، فتطلب من النهر المقدس ان يغتسل بنهر مقدس اخر ، وتذرف دمعة مالحة فيه ، حتى يستفيق النهر من غفوته ، وسكوته على مراكب الغرباء ، التي تبحر في دمنا ، كل صباح ومساء.زرت بغداد ، ثلاث مرات ، احداهن بالطائرة ، لم ار مدينة فاتنة في حياتي من فوقها ، كما هي بغداد ، فالارض خضراء ، والنخل يعانق الشمس ، وجداول الماء تلمع عبر الافق البعيد ، وحين تبحث في زوايا بغداد عن "بشر الحافي" ورفاقه لا تجدهم ، فقد ارتحلوا بارواحهم احتجاجا على احتلال مقنع ، وعلى احتلال سافر وسافل في آن واحدة ، وتكتشف انهم اسسوا تنظيما سريا ، لطرد الاحتلال ، فتبحث عن مقرهم لتبايعهم ، فتجدهم تارة في كوفة علي بن ابي طالب ، يشربون الماء من البئر المقدسة ، وتارة يقرأون الفاتحة على روح ابي حنيفة ، وتارة يتيممون بالتراب ، بدلا من الماء ، فأقول لهم ، ان حكم الصلاة في العراق ، جائز بدون ماء او تيمم ، لان الماء لم يعد مقدسا ، ولان التراب ، مغسول بالدم.اشتاق الى بغداد ، في كل ساعة ، واسأل عن ملايين امهات الايتام في العراق ، وملايين الايتام ، وعن وجوه الاطفال الواقفة الى اكتاف الجدات عند اعداد خبز الصباح الساخن ، وابحث عن جدتي في بغداد ، بين كل الامهات العراقيات ، فاجدها في البصرة ، تهز النخل فيتساقط رطبا جنيا ، وتسقيني جدتي بكفها حروفا بصراوية ، تجعل روحي تستفيق ، وتجول في بغداد ، تطوف كما هو الطواف ، تطوف حول المآذن والقباب ، تطرد غربان السوء ، وعملاء السوء ، والقتلة ، وتنادي على ابرياء العراق ، في اصقاع الدنيا ، لتقول لهم انكم عائدون.. عائدون بلا ريب ، وعندها اعرف ان بغداد دفنت كل الاحتلالات ، وان بغداد في محنتها ، تعلن ان المحنة هي محنة العرب ، وليس العراقيين لوحدهم."ركعتان في العشق لايصح وضؤوهما الا بالدم".. ومنذ الف عام ، وصاحب الركعتين ما زال يتوضأ ، فيما غيره من العرب ، تسمن خدودهم ، من فرط قلة الحياء ، وقلة الاحساس على حد سواء.
m.tair@addustour.com.jo