تصوراتٌ غربيةٌ للمستقبل العربي

تم نشره الأحد 19 نيسان / أبريل 2009 03:58 مساءً
د. رضوان السيد


لا يُعنى كُلٌّ من نتانياهو وليبرمان إلاّ بنفسيهما وبما يريدان، ولا يهمُّهُما في شيء بماذا يفكر الآخرون وماذا يريدون. بيد أنّ الأسوأ من هذين هو برنارد لويس الذي لا يكتفي بوضع تصورٍ لنفسه وماذا يريد؛ بل هو يتصور أيضاً ماذا نُريدُهُ نحن وما هو في صالحنا أو غير صالحنا!


ما كادت تمضي شهورٌ على ذهاب بوش الابن وزوال إدارته، وها نحن قد نسينا أو حاوْلنا أن نتناسى "المحافظين الجُدُد" وأوهامهم وانشقاقاتهم وتقاسُمَهُم للعالم بحسب الرغبات والعبقريات لكننا نبقى واهمين أننا ارتحْنا.

فالتسعيني برنارد لويس يقعُ في أصل أُطروحة "المحافظين الجدد" عن الإسلام والشرق الأوسط ،  وإذا كانوا هم أو بعضهم قد صمتوا الآن حجلا مما فعلوا أو لم يفعلوا؛ فإنّ المُريب يكاد يقولُ خذوني! فقد كتب لويس في العدد الأخير من "مجلة الشؤون الخارجية الأميركية"، عن مستقبل العالَم العربي ، ومستقبل العالم العربي من وجهة نظره رهنٌ بالصراع الدائر بين الأُصوليين والعلمانيين الديمقراطيين ، أما الأُصوليون فيُعادون العالَم، ويُعادون إسرائيل؛ ولذلك فلن ينتهي الأمر إذا سادوا إلاّ بصراعٍ رهيب، مع عدم تفكيرٍ بالمستقبل ، أمّا الطرف الآخَرُ فهو الذي يريد الاستقلال والحرية والعدالة وحكم القانون ، أمّا إسرائيل فليست مشكلةً كبرى، وإنما يستخدمها الأصوليون ذريعةً لشتْم الغرب، والتناقُضُ الرئيسيُ هو بين إيران والعرب، وبين السنة والشيعة، وبين الأصوليين والليبراليين، وبين هؤلاء والأنظمة السائدة!


 إذا كان المستقبل العربي رهناً بالسلام العادل والشامل، فهو كذلك رهنٌ بمشاركة تجترح التنمية والتقدم في ظل الدولة المدنية المستقرة والمنفتحة.
 
 
هذا هو التصور المُجْمَل في مقالة لويس، وهو تصورٌ تكرر عنده في العشرين سنةً الأخيرة مائة مرةٍ على الأقلّ، وجاء "المحافظون الجدد" بلويس ليشرح تصوره لبوش الابن، وقال له لويس ناصحاً: إنّ العرب لا يفهمون غير لغة القوة(!)، ولذا لا بد من الإغارة على العراق بعد أفغانستان ،  أما سببُ ذلك، فليس الكراهية المتأصلة أو النزوع الإرهابي، بل لأنّ المسلمين فشلوا في مجاراة أوروبا في نهضتها، خلال العقود العشرين الماضية؛ لذلك اشتد لديهم الحقد، وظهرت عندهم وفي أَوساطهم الأصوليات القومية والدينية، الكارهة للغرب، والتي تريد تدميره من أجل التوصُّل لتحرير أرضها وإنسانها من هيمنته وسيطرته ، وتابع لويس قائلا لبوش في نوفمبر عام 2001: لا تترك الشرق الأوسط، مهد الديانات والحضارات، بيئةً للتفكير المحافظ والمنغلق، إذا قورن بالاتجاهات الليبرالية والالتزام بالمؤسَّسات في تركيا!


ولا أرى تصوُّراً أكثر انحيازاً وتمييزاً من التصور السائد في أوساط "المحافظين الجدد" هؤلاء، وأنصار إسرائيل وحلفائها في المؤسسات الأميركية ، فالمشكلات كُلُّها نحن الذين تسبَّبنا بها لأنفُسِنا، وإسرائيل إنما بنتْها القراراتُ الدولية، وبيننا وبينها مشتركاتٌ الآن أهمُّها العداءُ لإيران(!)

والواقع أنّ المشكلات بين الحكومات ومعارضيها، وبين إيران والعرب، وبين السنة والشيعة... موجودة. لكنها، لحُسْن الحظّ، إلى انخفاض، والأمَلُ أن تؤدّي المصالحاتُ والانتخاباتُ إلى حراكٍ يحرّك سائر الساحات باتجاه التغيير السلمي والبنّاء. إنما دعونا هنا نحلْل أُسُس هذا التصرف أو التحرك بحسب برنارد لويس، لنرى كيف ظهر، وما علاقتُهُ بالتفكير اليميني الإسرائيلي، وما هي مآلاتُهُ وسط هذا الاستقطاب الدائر في المشرق بين عدة عناصر وأطراف؟!


شنّ نتانياهو وشارون عدة حروبٍ على العرب لإسقاط الحُلُم في دولةٍ فلسطينية مستقرةٍ ومتماسكة الأرض والناس. بيد أنّ الذي أحرجهما كثيراً هو وجود أعداد كبيرة من العرب في أراضي عام 1948 و1967، واستحالة طردهم جميعاً أو أكثرهم، كما استحالة المجيء بكل يهود العالم إلى "الأرض الموعودة"، وهم الذين بدأوا يستمتعون بمزايا الاندماج في بلدانهم الأصلية. لكنْ في الوقت الذي كانت فيه هذه الحروبُ تُشَنُّ، ما كانت بدون سياق. فقد ترافقت مع حروب الهيمنة الأميركية تقودُها أيديولوجيا "المحافظين الجدد"، وتستثير الغرائز، من طريق نشر بيانات "القاعدة" وأفعالها. ووقتَها سارت العبارةُ المشهورة: إنهم يكرهوننا لما نحن عليه من تقدمٍ وحريات(!)، وهذه هي العبارة نفسها التي كررها برنارد لويس منذ ثمانينيات القرن المُنْقَضي.


وعندما كان ذلك كُلُّهُ يجري دخلت إيرانُ على الخطّ نفسِه، وامتدّت على امتداداته. كانت باكستان قد استطاعت إنتاج النووي بحجة حاجة الغرب إليها في أفغانسْتان؛ أمّا إيران فكانت الحاجةُ إليها أشدّ لاضطرار الولايات المتحدة لمهاجمة أفغانستان ثم العراق، ومعارضة العرب والمسلمين لذلك! أسرعت إيران في تطوير برنامجها النووي الخاصّ. واستغرق الأمر سنتين ثم بدأ الغَزلُ يتكسّر، وصار اللَّومُ والاتهامُ سائداً لدى الطرفين في التخاطب بعد عام 2005. الأميركيون يقولون إنهم لم يعدوا إيران بقبول النووي. وإيران تقول إنها لن تقبل بالوجود الأميركي في العراق، حتى وإن قبل حلفاؤها وأنصارُها!


وهكذا فلدينا مشكلة الاستعمار الاستيطاني، المتمثّلة بالعدوّ الصهيوني. ولدينا الإمبرياليةُ والهيمنةُ المتحالفةُ مع الاستيطان الذي يستندُ إليها حتى الآن. وقد أدّت هذه الضغوط وجمود أنظمة الحكم إلى ظهور المعارضات الإسلامية الكبيرة والكثيرة. ومشكلتُنا معها اليوم لا تنحصرُ في عملها مع إيران ضد الاستقرار؛ بل أيضاً في أنها تريد إقامة دولةٍ دينية. أما الدولةُ المدنية فهي تحتاجُ إلى عملٍ من نوعٍ آخر يتصل بالمجتمع وطرائق تفكيره وتصرفه. وبخلاف ما يقوله برنارد لويس، ليست المشكلة في النماذج الفكرية التي أقامها هذا الفريق أو ذاك؛ بل المشكلة فيما يجري على الأرض من تحركاتٍ أميركيةٍ وإسرائيليةٍ وإيرانية. والمشكلة الثانية هي خلود الأنظمة التي أقامها الضباط تحت عناوين مختلفة، وقد استطاعت الصمود في الحرب الباردة، وها هي باقيةٌ بعدها. وتأتي الدولةُ الدينيةُ لدى الإسلاميين ثالثةً بين المشاكل، لكنها ليست بالبساطة التي نراها بحيث يجوزُ التقابُلُ بينها وبين الليبراليين كما يقول برنارد لويس.


ما فائدة هذه التصورات والاستعراضات؟ على مشارف العام الأول للرئيس الأميركي الجديد، يطرح كُلُّ طرفٍ تصوُّراته. والعربُ يريدون شيئاً واحداً هو سلامٌ عادلٌ ودائمٌ في فلسطين. بينما يستميتُ الآخرون في إماتة الملفّ مؤقتاً حتى لا يصطدموا بإسرائيل. والأوروبيون يتذمَّرون بالفعل، بينما يصرّ الأميركيون على التفاؤل بدون أُفُقٍ أو مُعطَيات. أمّا العربُ فهم مستعدُّون لمبادلةٍ تاريخيةٍ مع إسرائيل، ولحوارٍ تاريخيٍ مع إيران مثل حوارهم مع تركيا. وفي حين تُعلن إسرائيل عدم استعدادها للسلام والتسوية، تأبى إيران مواجهة موضوعات التدخل بصراحة وتُصرُّ عى أنها إنما تريد دعم المقاومة ضد إسرائيل(!)


هل تؤثّر تصورات برنارد لويس وأمثاله في السياسات؟ لقد سبق لهذه التصورات أنْ أثّرت، أو أنها اتُخذتْ ذريعةً، وكثُر الاستشهادُ بها في المقالات الصاروخية والمتسرعة. والعلائق بين الفكر والسياسات في هذه الحالات معقَّدة. فالسياسات تستندُ إلى وعيٍ بالمصالح أو بالعقائد أو بهما معاً، هو وعْيٍ لا يتشكَّلُ في الواقع؛ بل ترتيباتٌ ذهنيةٌ أو إعادة تموضُع كما يُقال، وفي ضوء هذا كُلِّه لا يبقى لمقاربات لويس التي خرجت من الواقع والوعي، إلاّ محاولة ستر أو تغطية التمييزيين الإسرائيليين وإلى أمدٍ محدود لا يتجاوزُ الأشهُر القليلة، فالرجل ذو تاريخٍ طويلٍ في الدراسات عن العرب والمسلمين والإسلام، والمفروض أنه يعرف "ثوابت العقلية العربية". لكنني منذ جدالاته مع إدوارد سعيد عام 1986، ما قرأْتُ له كتاباً أو خطاباً خالياً من مماحكاتٍ ضد العرب والمسلمين (باستثناء تركيا)، هدفُها معذرةُ الغرب، وتنسيتنا إسرائيل.


وفي النهاية إذا كان المستقبل العربي رهناً بالوصول إلى السلام العادل والشامل، فهو رهنٌ أيضاً بقيام الأَنظمة التي تنتهج سبيل المشاركة في الداخل والخارج، وتجترح مسائل التنمية والتقدم في ظل الدولة المدنية المستقرة والمفتوحة الأُفق.

الاتحاد الاماراتية



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات