افلاس الليبرالية المطلقة
الحرية قيمة لا تقاس بثمن، انها اقصى ما يتوق اليه الانسان في حياته على المستويات كافة، على مستوى التفكير كما على مستوى التعبير وكذلك على مستوى التوجه والتوقف والتحرك والانتماء وما الى ذلك ، ولكن للحرية حدود، فهي ليست مرادفة للتفلت. فالحديث عن الحرية بمعناها المقدر لا بل والمقدس لا يشمل مثلا حرية الكذب والخداع والسرقة والنهب والابتزاز والاذى والغذر والاعتداء والخطف والقتل وما الى ذلك لا حرية في كل ما يتنافى مع نوازع الضمير او مع القيم الاخلاقية او الاجتماعية او الثقافية او الحضارية او الانسانية.
هذه القاعدة تضح ايضا على الحرية الاقتصادية، فالنظام الاقتصادي الحر، والذي يرمز اليه عنوان الليبرالية، يخضع لحدود، فالليبرالية لا تكون مطلقة بوجود سلطة الدولة، فالدولة تمارس سلطتها، التي تتمتع بها بموجب دستور البلاد كما بموجب القوانين التي تصدر عن السلطة التشريعية، بتتبع مسار الاقتصاد الوطني على كل صعيد، وتراقب الاداء الاقتصادي العام كما اداء شتى القطاعات، وتمارس في حدود سلطتها الدستورية والقانونية حقها في املاء قواعد العمل والتنظيمات حفاظا على سلامة الحالة الاقتصادية واستقرارها وضمانا لتواصل نمو الانتاج الوطني ودخل الفرد والمجتمع. هكذا تبقى الحرية الاقتصادية، في الانظمة الليبرالية، محتواة ضمن اطار سلطة الدولة.
كان هذا واقع الحال في جميع الدول التي تعتمد النظام الليبرالي اقتصاديا، وكان هذا ولا يزال واقع الحال الى حد ملحوظ في بلدنا لبنان الذي اخذ ويأخذ بنظام الحرية الاقتصادية.
الا ان العالم اخذ خلال العقد الاخير، بقيادة الدولة العظمى، الولايات المتحدة الامريكية، واوروبا في العقدين الاخيرين، ينحو اكثر فأكثر الى تحرير الاقتصاد الوطني من القيود الحكومية بناء على فلسفة متنامية تقول ان عوامل السوق في النظام الليبرالي، لو تركت على غاربها، كفيلة بضمان حسن انتظام الاقتصاد الوطني، بما في ذلك استقراره ونموه، لا بل ان الاخذ بهذه الفلسفة بلغ من التمادي حدود القول بأن ايّ تدخل من جانب الدولة في مسار الاقتصاد الوطني انما يتسبب بحرف الاقتصاد الوطني عن المسار السليم وقد يؤدي الى عرقلة نموّه وتعكير استقراره ، هكذا بلغت الدعوة الى الليبراليةالمطلقة، الحرية الاقتصادية المنعتقة من اي قيود او تدخلات حكومية، مشارف الغلو والتمادي.
مع ذلك بقي للدولة، حتى في الاقتصادات الاكثر ليبرالية في العالم، دور تؤديه، بقيت المصارف المركزية مسؤولة عن اصدار النقد وضبط التطورات المالية، وبقي للدول موازناتها السنوية التي تضغط عبر الجباية والإنفاق بطبيعة الحال على مسار الاقتصاد الوطني عموما واداء قطاعات معينة على وجه خاص، وبقيت هناك اتفاقات اقتصادية ومالية بين الدول تلقي بظلالها على حجم التبادل التجاري الدولي وتكوينه وبقيت انظمة معينة في كل بلد تؤثر على اداء الاقتصاد الوطني وبنيته، من مثل الرسوم الجمركية وسائر الضرائب. وبقيت الحكومة في امريكا، رائدة المسيرة الليبرالية في العالم، تتدخل مباشرة في مسار الاقتصاد الوطني، من مثل استمرار دعمها للقطاع الزراعي ودعمها لمنتجي الطائرات المدنية، وبقيت بعض اجراءات الدعم والحماية تمارس في سائر اقطار العالم التي تلتزم مبدئيا قاعدة التحرير الاقتصادي، سواء في اوروبا أو في الشرق الاقصى.
مع ذلك فإن الدول مضت قدما في تبني سياسات اكثر فأكثر انفتاحا وليبرالية، وحاولت الدول الاكبر فرض هذا التوجه على الدول الاصغر والاضعف، والمعروفة بالدول النامية، وبلغت سياسات التحرير في الدول الكبرى في الحقبة الاخيرة حدود التراخي في الرقابة الحكومية على الاداء الاقتصادي، وفضحت الازمة المالية العالمية التي انفجرت اخيرا ان التراخي بلغ مبلغه في الرقابة على المصارف ، فكان انفجار الازمة المالية بانهيار مصرف كبير في العاصمة الامريكية، اعقبه انهيارات مماثلة في امريكا وسائر دول العالم.
في بلدنا لبنان لم تكن هناك رقابة على المصارف قبل انهيار بنك انترا في عام .1966 وكنت شخصيا بين الذين طلب اليهم العمل على وضع تصميم لانقاذ الوضع، فكان ان صدر، في جملة ما صدر، قانون يستحدث لجنة للرقابة على المصارف للمرة الاولى، واوكلت رئاستها التي شخصي لم نكن بالطبع نمتلك اية تجربة او خبرة في هذا المضمار، فانبرينا الى الافادة من تجارب الغير ممن سبقنا في هذا المجال ، وسعينا الى الافادة بصورة خاصة من تجربة امريكا العريقة في ميدان الرقابة على المصارف.
الا ان الجموح نحو تحرير الاقتصاد في امريكا في الاونة الاخيرة، جرف معه، على ما ظهر، حتى الرقابة المصرفية الفعالة، بدليل ان الازمة المالية العالمية، التي انقلبت ازمة اقتصادية شاملة، انطلقت شرارتها بانهيار مصرفي في الدولة العظمى ، لو كان في امريكا رقابة مصرفية فعالة لما انفجرت هذه الازمة المدمرة، التي لم يسبق لها نظير منذ العام .1929
في بلدنا لبنان بقيت الرقابة على المصارف فعالة وبقيت عين مصرف لبنان المركزي ساهرة على سلامة الوضع النقدي عموما وسلامة الوضع المصرفي خصوصا، فبقي القطاع المصرفي اللبناني ملتزما قواعد للعمل كانت كفيلة بالحفاظ على سلامته وحصانته حتى وسط العاصفة المالية الدولية ، هكذا اجتاحت العاصفة المالية اقتصاد الدول الاكبر في العالم، وسلم القطاع المصرفي اللبناني من تداعياتها فلم يهتز مصرف من المصارف الناشطة فيه، والحمد لله. فكان ان واصل بعض المدخرين العرب ايداع اموالهم في مصارف لبنان. فكانت الزيادة الملحوظة التي حققها مصرف لبنان في مجموع احتياطاته من العملات الاجنبية منذ انفجار الازمة العالمية.
هذا لا يعني ان لبنان لم يتأثر او انه لن يتأثر بتداعيات الازمة العالمية فلبنان اولا واخيرا جزء من هذا العالم، واقتصاده مرتبط ارتباطا وثيقا بالاقتصاد العربي، لا سيما الخليجي منه، على شتى الصعد. لذلك فلبنان اخذ يتلقى نصيبا من تداعيات الازمة العالمية ولو انه سلم حتى اليوم من كوارثها الكبرى بفضل سياسة مصرف لبنان والرقابة على المصارف كما يفعل موقع لبنان العربي الذي بقي متميزا.
الازمة العالمية كشفت افلاس سياسة الليبرالية المطلقة، ولسوف تعيد الاعتبار لدور الدولة الفاعل في السهر على اداء الاقتصاد الوطني واداء قطاعاته المختلفة، ولسوف يتولد عن الازمة نظام اقتصادي عالمي جديد يعبر عن هذا الواقع المستجد. هذا النظام لم يولد بعد ، لذا القول ان العالم لم يشهد بداية الحل لازمته المدمرة بعد ، والحل لن يكون الا بتوافق دولي. فكيف سيكون العرب كلمة في الحل المرتقب وهم لا يجمعون صفوفهم حول رؤية مشتركة او توجه محدد؟ من سيبادر الى جمع كلمة العرب؟ يجب التذكير في هذا الصدد بأن المملكة العربية السعودية هي العضو العربي الوحيد في ما يسمى مجموعة العشرين من الدول. فهل ستقوم بمبادرة عربية جامعة على هذا الصعيد؟
* لبنان
العرب اليوم