هل يشجع الإعلام محاولات الانتحار؟!

الخبر المثير الذي تتسابق وسائل الاعلام المحلية والخارجية على نقله حيا ومباشرا هو صعود فتاة او شاب الى سطح مبنى شاهق والايحاء بأنه يحاول الانتحار.
تصعد فتاة ما الى سطح مبنى وتقف قريبا من الحافة بانتظار ان يشاهدها المارة، واذا لم يتنبه أحد الى وقوفها المرعب فستظل واقفة حتى يتجمع الناس ويشخصون بأبصارهم الى أعلى ويزدحم الشارع بالسيارات التي يمد سائقوها رؤوسهم من النوافذ مستطلعين، ويتطوع اكثر من شخص للاتصال بشرطة النجدة.
وتهرع شرطة النجدة وشرطة حماية الاسرة ويزدحم المكان بأضواء سيارات الشرطة وكاميرات الاعلاميين وفضول الفضوليين، بينما تتفرج تتفرج (مشروع المنتحر) على المنظر البهيج من أعلى فتشعر انها شيء مهم جدا والعالم كله في خدمتها، ويتوسل ضابط متخصص اليها العدول عن الانتحار لأنه حرام ولأن المشاكل التي تعاني منها يمكن حلها ولا تستحق ان تضحي بنفسها في لحظة يأس.
وكلما اتسع الجمع وكثرت محاولات الاقناع كلما كان المنظر ممتعا فتطول المفاوضات ثم تقتنع وتتراجع الى الخلف وتهبط برفقة عدد من الضباط وسط تصفيق الحشد، وتتسابق الكاميرات لالتقاط الصور، ويطير الخبر الى مئات الصحف والوكالات ويقبل الناس على قراءته بشغف.
في اليوم التالي تزدحم الصحف الاسبوعية والمواقع الالكترونية بالمقالات التي تحاول البحث عن أسباب محاولة الانتحار تلك اليائسة ويطالب كثيرون بدراسة وضعها بينما يعتبر آخرون الحادثة دليلا قاطعا على وصول طبقة كبيرة من المجتمع الى حالة يأس بعد ان (نهب الحيتان البلد)، ويدب غيرهم الصوت ويقرعون ناقوس خطر ارتفاع حالات الانتحار في الاردن، فيحمل الزوار والاصدقاء في العالم فكرة بأن الاردن بلد الانتحار واليأس؟!.
في كل العالم المتقدم منه والمتخلف يكون الانتحار او الشروع بالانتحار في مكان عام رسالة سياسية ايديولوجية يحاول ناشط سياسي او متطرف ايديولوجي ارسالها للفت الانتباه الى قضية مجموعة سياسية او فئة عرقية او حقوق انسان او ما شابه، وغالبا ما يعلق المنتحر لوحة على صدره يبيّن فيها اسباب الانتحار، ويختار المكان الاكثر ازدحاما، ونادرا ما تنجح الشرطة في اقناعه بالعدول عن الانتحار، اما حالات الانتحار العادي - لأسباب شخصية او عائلية - فانها تتم وتنفذ بهدوء وفي مكان هادئ معتم، فاليائس من الحياة ينتحر وقد يترك رسالة شخصية خلفه، لأنه وببساطة فان من يريد الموت لنفسه لا يجمع الناس حوله لاقناعه بالتراجع.
في الاردن تشير الارقام الرسمية ان عدد حالات الانتحار المسجلة وفق التصنيف القضائي كانت 35 حالة في العام 2008، أي بمعدل سبع حالات لكل مليون مواطن، اما متوسط معدل الانتحار في العالم فهو 5ر14 حالة لكل 100 الف شخص، وبهذا يتضح الفرق الشاسع في نسبة حالات الانتحار بيننا وبين العالم وهو مؤشر على سلامة الوضع الأسري الاردني بشكل عام.
ولو حاول مراسل صحفي يقظ مراجعة سجلات الطب الشرعي لاكتشف ان حالات الوفاة بالحوادث المنزلية مثل الحريق او التسمم بلغت مائتي وفاة في العام 2008، ولكنها لم تلق اهتماما اعلاميا مثل محاولات الانتحار الاستعراضية، وحوادث السير حصدت 650 مواطنا في العام 2008، اما معدل الوفيات السنوي في الاردن فهو 22 الف وفاة سنويا، وان متوسط عمر المواطن في منطقة العقبة 2ر83 عاما بينما متوسط عمر المواطن في الطفيلة 7ر71 عاما وفي الكرك 4ر74 عاما وفي العاصمة 7ر78 عاما وفي السلط 5ر73 عاما، ولا يهتم أحد بتفسير أسباب تدني معدل عمر الفرد في محافظتي الطفيلة والبلقاء، وأسباب الحياة المديدة التي يعيشها المواطنون في العقبة!! وهل لهذا علاقة بتلوث ما؟؟ بالمحصلة فاننا بالمبالغة الاعلامية في تغطية حوادث الشروع بالانتحار نشجع كل من لديه مشكلة ان يسارع الى التظاهر بمحاولة الانتحار ولعلها ظاهرة ان تفشل كل تلك المحاولات الاستعراضية وينال أصحابها شهرة اعلامية ومحلية وعائلية.
انني اقترح ان تتفق وسائل الاعلام المحلية على رفض تغطية محاولات الانتحار في الاماكن العامة والاعلان عن ذلك مسبقا وأنا على يقين اننا لن نشاهد من يصعد سطح مبنى مهددا بالقاء نفسه، وبعبارة اخرى علينا ان نقول لم يرغب بالانتحار بهذا الشكل لم لا تفعلها دون ان تعلمنا!! أخشى فعلا ان يكون الاعلام عاملا مشجعا على تكاثر محاولات الانتحار في الأماكن العامة خلال الأشهر الماضية، ولو كنت صحفيا في الميدان لتابعت نتائج تحقيقات الأمن العام في محاولات الانتحار تلك فلربما نكتشف ان جزءا كبيرا منها لم يكن الا مسرحية درامية فاشلة.
الرأي