إدارة أوباما... وفخ القاضي "جارزون"

يبدو أن سلبية الرئيس أوباما، بدأت تنجز بعجزها وعدم فعلها ما يخشى الرئيس القيام به علناً ومباشرة، قبل التهديد بمحاكمة بعض مسؤولي إدارة بوش أمام القضاء الإسباني في تُهم ذات صلة بقسوة أساليب التحقيق مع معتقلي الحرب على الإرهاب. وربما تبدو هذه السياسة ذكية وناجعة في أوساط الحزب "الديمقراطي"، بيد أنها تهدد أميركا بمخاطر كارثية كبيرة على المدى البعيد. بل لعل من السخرية والخوف أن ترتد هذه السياسة نفسها إلى نحور صانعيها من أفراد الإدارة الحالية -بمن فيهم أوباما نفسه- يوماً ما، وذلك عقاباً لهم على سياساتهم المتبعة في كل من العراق وأفغانستان.
وقد اتخذ أوباما مواقف ملتبسة ومتناقضة نوعاً ما، بشأن ما إذا كان على إدارته أن تبدأ محاكمة بعض مستشاري إدارة بوش وصناع قراراتها، فيما يتصل بقسوة أساليب التحقيق مع معتقلي الحرب على الإرهاب. وعلى رغم تعهد أوباما بعدم مساءلة عناصر وكالة "سي آي إيه" التي باشرت تلك التحقيقات، إلا أن الروح المعنوية لضباط الوكالة متدنية للغاية الآن. وربما يكون أوباما قد حظي، في هذه الأثناء، بالمزيد من التأييد الشعبي، خاصة حين ناور بهذه الورقة السياسية. غير أن المبادئ التي قامت عليها سياساته تظل ضبابية وقابلة للتغيير في أي لحظة.
وبينما لم تتأكد الخطوات اللاحقة في هذا الأمر حتى الآن هنا في أميركا، يلاحظ أن التطورات تمضي سريعاً في الخارج. فقد فتح القاضي الإسباني "بالتازار جارزون" ملف تحقيق قضائي الأسبوع الماضي، بحق ستة من محامي إدارة بوش، بسبب الاستشارة القانونية التي قدموها للرئيس، فيما يتعلق بأساليب التحقيق مع معتقلي الحرب على الإرهاب. ومضى القاضي "جارزون" في خطوته هذه على رغم اعتراضات مكتب الادعاء العام الإسباني، مستنسخاً بذلك الخطوة نفسها التي اتخذها بحق الرئيس التشيلي السابق أوغيستو بينوشيه في عام 1998. ووفقاً لنظام التحقيقات الساري في إسبانيا، فلا شيء يوقف القاضي "جارزون" عن خطوته هذه، بصرف النظر عن موقف أو رأي الحكومة الإسبانية المنتخبة.
على أوباما أن يعلن عن موقف مبدئي صريح، يدعو فيه إسبانيا إلى فعل كل ما بوسعها لإيقاف "جارزون" وأمثاله عند حدهم.
ورداً منها على الأسئلة المتكررة التي وجهت إليها حول تحقيقات القاضي الإسباني هذه، اكتفت وزارة الخارجية الأميركية بالقول "إنه شأن يعود إلى القضاء الإسباني وحده". وفي الأسبوع الماضي، مضى ممثل الادعاء الأميركي العام "إريك هولدر" خطوة أبعد بالتلميح بأن في وسع القضاء الأميركي التعاون مع المحكمة الإسبانية. وعلى حد تعبيره: "سننظر في أي طلب يرد إلينا من أي محكمة من مختلف أنحاء العالم، ثم نقرر إلى أي مدى وبأية طريقة يمكننا الاستجابة له". وهذا تصريح مثير للقلق بالطبع. فليست التحقيقات التي يلوح بها القاضي الإسباني "جارزون" في شيء من المخالفات البسيطة التي يقع فيها السياح الأميركيون في الدو ل الأجنبية، التي عادة ما تكفي فيها التحقيقات التي تجريها شرطة الدولة المعنية. وفيما يبدو، فإن ما تفعله أقسام القنصليات بسفاراتنا في الخارج، في إطار تقديم الدعم والمساندة القانونيين لرعايانا وسياحنا في الخارج، يبدو أكبر وأكثر حرصاً على مواطنينا مما تنوي إدارة أوباما فعله إزاء محامي إدارة بوش، الذين ستبدأ معهم التحقيقات في إسبانيا. وفيما لو تبين لاحقاً أن إدارة أوباما تعتزم وضع حد لهذه التحقيقات والحيلولة دون مضيها على قدم وساق، فسيكون ذلك أعظم أسرار أمتنا، على امتداد عدة عقود!
وفي حين يواجه هؤلاء المحامون الستة وضعاً قانونياً خطيراً للغاية، فإنه يلزم القول إنهم ليسوا سوى أهداف ثانوية متوسطة لذلك القاضي الإسباني. فالذي يستهدفه "جارزون" عملياً هو الرئيس بوش نفسه وعدد من كبار مستشاريه. ثم إن الغاية النهائية وراء كل هذه الإجراءات هي غرس الرعب القانوني في نفوس قادتنا ومسؤولينا الأميركيين، ولجمهم قضائياً عن اتخاذ القرارات الصعبة -ولكن الضرورية في ذات الوقت- لحماية أمننا القومي.
والسؤال الرئيسي هنا ليست له علاقة باتفاق المرء أو اختلافه مع الاستشارة القانونية التي قدمها هؤلاء المحامون، أو مع القرارات التنفيذية التي اتخذها المسؤولون بشأن أساليب التحقيق تلك. وإنما السؤال الأهم: مَن هو المخول بالحكم على سلوك مسؤولينا أثناء أدائهم لمهامهم الحكومية؟ هل هو الجهازان التنفيذي والقضائي الأميركيان -وفقاً لما ينص عليه الدستور والمؤسسات التي تحمي مواطنينا- أم أن ذلك من شأن قاضٍ أجنبي لا يخضع لمساءلة أحد أو جهة في بلاده؟ وليس هذا السؤال مجرداً أو نظرياً. فلا شك أن للتحقيقات المزمع إجراؤها بحق المحامين الستة، تأثيرات مباشرة على حياتهم المهنية والأسرية الخاصة. وسواء تعهد أوباما بعدم مساءلة ضباط ومسؤولي وكالة "سي آي إيه" الذين باشروا التحقيق مع معتقلي الحرب أم لم يتعهد، فلا شأن لموقفه هذا بما سيقرره السينيور "جارزون" بحق ضباط الوكالة، خاصة أن "جارزون" معروف بولعه الشديد بتسليط الأضواء على شخصيته. وفي السياق نفسه، قال "مانفريد نواك" المقرر الخاص لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة، إن على الدول الأعضاء في المعاهدة الدولية ضد جرائم التعذيب -البالغ عددها 145 دولة- أن تبدأ تحقيقاتها الخاصة، فيما لو تقاعست أميركا عن فتح ملفات التحقيق في جرائم التعذيب المنسوبة إليها.
وفي كثير من الأحيان يكون للنشاط الدبلوماسي الجاري وراء الكواليس بين الدول دور مهم في تحقيق أهداف سياسات الدول بعيداً عن الأضواء. وأملي أن تكون جهود كهذه تجري الآن بين واشنطن ومدريد. غير أن على أوباما أن يعلن عن موقف مبدئي صريح، يدعو فيه إسبانيا إلى فعل كل ما بوسعها لإيقاف السنيور "جارزون" وأمثاله عند حدهم. وإن لم يخطُ أوباما هذه الخطوة، فالخوف أن تمر السنوات على إدارته، ثم يأتي من يطالب بمحاكمته وأفراد طاقم إدارته أمام محكمة أجنبية ما، بسبب جرائم قتل المدنيين في أفغانستان وباكستان، جراء الضربات الجوية التي تنفذها قواتنا في البلدين. فذلك هو ما سبق لماري روبنسون -المفوض السامي لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة- أن تساءلت بشأنه فيما يتصل بعمليات قصف "الناتو" في حرب كوسوفو بقولها: هل يجوز قصف الجسور من دون التأكد من أن الحافلات المارة بها لا تقل مدنيين؟ فوفق هذا المنظور، يعد قتل المدنيين خطأً أثناء الحرب، جريمة من جرائم الحرب التي يحاكم عليها القانون الدولي. وعلى أوباما ومستشاريه أن يفكروا جيداً في هذه السيناريوهات، قبل تخاذلهم في الدفاع عن محامي بوش.
* السفير الأميركي الأسبق لدى الأمم المتحدة
الاتحاد الاماراتية