عندما تتعهد الحكومات شباك التذاكر

اقدام الحكومات على تعهد »شباك التذاكر« باقامة حفلات فنية أمر قديم جديد, بل ان التنافس في اقامة المهرجانات بين القطاعين العام والخاص قديم ايضا.
في مطلع الستينيات, كنت تلميذا على مقاعد الدراسة, عندما قرر احد المسؤولين اقامة مهرجان »للتزلج على الجليد« في المدرج الروماني بعمان باحضار فرقة روسية او اجنبية من اجل تنشيط السياحة! ولانها فكرة (عبقرية) اكثر مما تستوعبه العاصمة فقد اثار الجدل بين الناس, وهاجمته المساجد من الناحية الدينية, فالاخوان المسلمون كانوا موجودين دائما, اما اصحاب الميول القومية والماركسية فاحتجوا على تحويل المياه الى جليد في مدينة لا يزال في بعض احيائها وجود لمهنة السقايين.
ما اعرفه ان المهرجان فشل, وهو ما دفع القطاع الخاص لدخول الساحة باقامة مهرجان اخر في الجبيهة, مكان الجامعة الاردنية الان, في اطار معرض تجاري يقام لاول مرة. نجح المهرجان لان نجمة الحفل كانت سميرة توفيق, التي غنت لصفوف من المسؤولين, جلسوا برصانة على مقاعد خشبية, بينما (تشعبط) الجمهور على الشجر لسماع مطربة الاردن وهي تغني, »وين عَ رام الله« و»يا ابو قظاظة بيضا«.
نجاح مهرجان الجبيهة دفع, في الصيف التالي, الحكومة لتعهد مهرجان اخر في المدرج الروماني وهذه المرة, كانت نجمة الغناء فيه (طروب) وردا على نجاح »ابو قظاظة بيضا« غنت المطربة اللبنانية »يا حلاق اعملّي غرة« امام صف من القادرين على شراء التذاكر وهم لم يتجاوزا العشرات, بينما كان جمهور طروب من المتسكعين في الشوارع يودعونها كل ليلة, بالسير خلفها اثناء توجهها على الاقدام من امام احد فنادق شارع السعادة في وسط عمان حتى مدخل المدرج الروماني, وهو جمهور كان على اي حال اكثر عددا بكثير من صف المنتظرين الجادين والرصينين, الذين كانوا بانتظارها.
غير ان (المبادرات) الفنية لم تتوقف واذكر انه بينما كنا داخل صفوف الدراسة في كلية الحسين, قام وكيل الكلية بدخول الصفوف تباعا ومعه رجل لبناني وسيم, قدمه إلينا بأنه خبير يريد تكوين (فرقة رقص اردنية), وكانت مهمته طرح سؤال: من يجيد الرقص او الغناء يرفع يده? بعد ان يشرح اهمية الفن والغناء مستشهدا بفرقة فيروز »الرحبانية« لكنه لم يجد احدا من الطلاب يتقدم الصفوف, فحاول عبثا اقناع الجميع بأن »الرقص بخليكن سفراء لبلادكم في هذا الكون«.
فيما بعد, روى لنا احد الاساتذة, ان الخبير غادر عمان على اول طائرة الى بيروت بعد ان قُدمت امامه, نواة فرقة اردنية ارتدى شبابها الكوفية وهم ملثمون ليؤدوا رقصة (دحيّة) كانت (الحوشي) تلوح فيها بالسيف, بينما (الدحية) تخرج مجلجلة من حناجر الشباب, فقرر الخبير ان يبحث عن سفراء في مكان آخر.
على مدى, العقود الماضية, كان هناك اصرار (رسمي) بتعهد الفن والسيطرة عليه والقيام بمهمة شباك التذاكر, حتى جاء مهرجان جرش كحل وسط بين المجتمع المدني, الذي انتج على مسارحه فرقا ونجوما استعادت التراث الشعبي في الغناء والرقص, وبين رغبة رسمية عنيدة (بعسكرة) الطرب وتحويله الى اهازيج مناسبات بطابع من يعتقد اننا في حرب مستمرة, نهج لاقى دائما, الدعمين المادي والاعلامي, حتى تحول مزاج الجمهور الاردني الى هذا الطابع من الغناء. وبالتالي لم تلاق الاغنية الاردنية (بزيها الفيروزي) الفرصة للرواج والانتشار خارج الحدود مثل الاغاني المصرية والسورية واللبنانية والعراقية والجزائرية.. الخ.
عندما تقيم مصر مهرجانات فهي اولا واخيرا للفن والاغنية المصرية, وهكذا مهرجانات لبنان وغيرها, وعندما زينت فيروز اسماء قرى ومدن لبنان في اغانيها كأنها نجوم في سماء صوتها العذب وكلماتها المنتقاة من التراث الاصيل, اصبحت الاغنية اللبنانية بالفعل سفيرة بلادها في الكون.
الشغف الحكومي برعاية شباك التذاكر واغاني المناسبات افقد الفن الاردني فرصة التطور الطبيعي فيما اصبحت الحرب على (النجم الوطني) سياسة مع تجاهل واضح لحقيقة ان الفنان عندما يصبح نجما عربيا فانه يُحلّق في ذرى الفن ومعه اسم وطنه.
اخيرا هذه مقالة خارج السياق من وحي اجواء مهرجانية يقال انها لتعميم البهجة والفرح بليالي مطربي (روتانا) ونهار (الفُريرات) الملوّنة على اعمدة الكهرباء, فالبلد كله يعيش حالة سياحية اسمها: (5 سياحة) وهو عنوان البرنامج الاذاعي المصري الشهير.0