«مطيةّ لا تكبو!!»

المدينة نيوز - دلفتُ الى المشفى لزيارة صديق امتحنه الله عزّ وجل بذاك المرض «اللي ما ينذكر» وأول حرف من اسمه (السرطان)، أبعده ارحم الراحمين عنكم.. صافحت الرجل ثم شرعت في الحديث معه لرفع معنوياته بعد أن باحت لي ناصيته بشرود الذهن واعتلال المزاج ، ناهيك عن ذبول عافيته.. وحاولت ما وسعني الجهد ادارة دفّة الكلام نحو جوانب مشرقة لاعطائه جرعة من الأمل في مواجهة هذا المرض الخبيث،،ورغم التزامي بالنصيحة الشعبية القائلة: (الزيارة غارة) ، إلاّ أنني أطلتُ المكوث عنده حين لمستُ بأنه «تَنَعنَش» قليلاً وسرتْ في أوصال حديثه الخافت روحُ الدعابة.. وعندما استأذنت بالانصراف شدّ على يدي قائلاً: «يا خُوي تعال دايماً ، فقد انساني حديثك العذب بلواي ومرضي»،،وظننتُه على سفر وشيك حين رمقني بسؤال: «بتوصي شي»؟، فقلت على الفور: نعم.. أوصيك بالصبر.. الصبر.. الصبر الذي قَرَنهُ الباري جلّ وعلا بالصلاة عمود الدين.ولا أدري كيف قَفَزَتْ الى ذهني واقعة لُحمتها الصبر.. وسُداها احتمال أذى خبيث من مصدر أدهى وأمرُّ من السرطان،، كان ذلك في السبعينيات من القرن الماضي حين تأبطّتُ ذات صباح ميكروفون الاذاعة الاردنية ، وكنت إذ ذاك اذاعيا ، لاجراء مقابلة مع شخصية فرنسية وقفت الى جانب الحقّ الأبلج.. فأضحى التقدير واجبا،.. لمستُ جرس الشقة الباريسية التي يسكنها الرجل لأجدَ في انتظاري مضيفي (المسيو ريمون أفروا) رئيس جمعية الصداقة العربية - الفرنسية.. فصافحني.. ثم اشار عليّ بالجلوس.. ففعلت.. وكانت منّي التفاتة.. ويا للدهشة،،.. فقد أبصرت قُدّامي مجموعة من السلاحف وقد افترشت سجاد الغرفة في منظر يبدو وكأنها تشاطر عن طًيب خاطر تلك العائلة الوادعه هدوء المكان.. وطيب المقام والصبر على جَوْرً الايام.. وظُلم اللئام،،وقلت شبه مازح: هل تمانع (مسيو أفروا) لو بدأت الحديث عن شركائكم في السكن. أقصد هذه السلاحف التي تسرح وتمرح في منزلكم؟ ما قصة هذه المخلوقات؟،فضحك وقال: هذه السلاحف علّمتني الكثير.. فهي تشكّل شعاراً لصيقاً الى قلبي.. ومضموناً دائم الحضور في وجداني.. شعار عنوانه الصبر.. ومحتواه المثابرة المستندة الى حائط الصبر المكين.. وهدفه الوقوف الى جانب الحق مُتسلحاً بسلاح الصبر،،وقال الرجل الحكيم كلاماً لقفتُ منه ان السلاحف بمثابة صديق ودود يذكره بفضيلة الصبر.. لذا فانه يحرص على ديمومة العلاقة معها.. صديقّ يحمل ظهراً صلباً كسيف الحقّ.. وبطناً ليناً مثل لغة الصادقين الشفيفة،.. ويتعايش الاثنان - الصلب واللّين - في كيان هذا المخلوق الصبور ، تماماً كما يتعايش العظم واللحم في بنيان المرء ، مرجعيتهما العقل الذي كرّم الله به الانسان.. ويسيران بتناسق رتيب ومحسوب نحو المبتغى والهدف المرسوم،،وسرد الصديق (أفروا) تفاصيل مسيرة مدادها الصبر.. وفحواها مناصرة الحق مع ما يستتبع من «احتمال للأذى ورؤية جانية».. وعرّج في حديثه على «أطزج» اعتداءْ استهدف شريكة حياته حين حلّ الجهل والتعصب وضيق الأفق محل الحوار الهادف ولغة المنطق والعقل.. فقد اقتحمت شلّةّ من المتطرفين الصهاينة العمارة التي تقع فيها شقته.. وانتزعت زوجته من المصعد وأوسعتها ضرباً وتنكيلاً وتعذيباً لا لذنب اقترفته بل لأن زوجها (المسيو أفروا) يقف الى جانب عدالة القضية الفلسطينية والحقّ والاعتدال العربيين،،وأضاف وهو يتابع حركة احدى السلاحف: لقد اقتنعتُ.. فجهرتُ برأيي.. وانتقلتُ الى خانة الفعل من أجل ان يصبح البحر الابيض المتوسط بحيرة سلام وجسر لقاء بين الحضارة العربية وجارتها الأوروبية، متأسياً في مسعاي هذا بصبر السلاحف من حيثُ النهجُ.. وصلابة صدفتها من حيث متانة الموقف.. ومثابرتها نحو الهدف المرسوم ولو طال الزمنُ وأمدُ الوصول،،وفي الختام أقول: يا صبر أيوب.. لا تبرح وجدان البائسين،،يا أيها الصبر الذي وصَفهُ سيدنا علي بن ابي طالب كرّم الله وجهه وحثّ على التحلّي به حين قال: (الصبر مطيةّ لا تكبو.. وسيف لا ينبو)..أيها الصبر.. يا من غدوت بعد الاتكال على العلي القدير البلسم الفردي في مواجهة مرض السرطان الخبيث.. فانك البلسم الجماعي في مواجهة ما هو أخطر وأخبث.. ألا وهو سرطان الاحتلال الصهيوني الذي بدل ان ينصاع لمتطلبات السلام واعادة الارض لأصحابها الشرعيين راح يضخّ خلايا وسرطانات استيطانه في قلب وأحشاء فلسطين الغالية.. وأنت الملاذُ بعد الباري جلّ وعلا للفلسطيني المنكوب الذي ما يزالُ يحتفظ بالصبر على هيئة مفتاحْ أحكم وثاقه في طياته حًزامه وحنايا وجدانه وذاكرة أحفاده،،وأنت العلاج لكل مظلوم تحت الشمس لا حيلة له في هذا الزمن الظالم سوى اطلاق زفرات كأنات الكوُرْ.. وأنت الذي تسامرُ عين العراق الحبيب الذي يَعَفُّ عن الشكوى.. وأنت توأم وجعه النبيل.. الذي استدر الندى البكرْ من العيون المقروحة ذاك الشاعر العراقي المبدع عندما باح ذات وجع نبيل ، عن صبر النخيل الذي فاق كل الحدود:يا صبر أيوب... حتى صبره يصلالى حدود... وهذا الصبر لا يصل،،