حين تحجم الصحافة الجادة عن ممارسة دورها

لأسباب عديدة، تحجم الصحف اليومية (بعضها على الأقل) عن الانخراط في الجدل الدائر حيال عدد من عناوين الأجندة الوطنية الأكثر إلحاحية وحساسية، على أنني – شخصيا – لا أجد من بين جميع هذه الأسباب، المعلنة والمضمرة، سببا واحدا وجيها يبرر هذا الإحجام، يسوقه ويسوغه.
ولقد ترتب على الإحجام، نزوح الجدل حول هذه المسائل إلى "مطارح أخرى"، وأخذ المتجادلون يهجرون صفحات الجرائد الوطنية إلى المواقع الالكترونية وصحف الاغتراب، وبدأ الكتاب الذين يفضلون عادة، وبحكم المهنة، أن يعبروا عن آرائهم في مقالاتهم وزواياهم، يتحولون إلى سياسيين، ينتظرون موقع من هنا وقناة إخبارية من هناك، تستطلعهم آراءهم فيما يجري ويدور، ويتفضلون بالإجابة بالحدود الذي تسمح به اعتبارات المكان والزمان.
ولأن سقوف الحرية في بعض المواقع الالكترونية أعلى بكثير مما هي عليه في جميع الصحف اليومية، ولأن لهذه المواقع جمهورا "وكتبة مكرّسين" للرد والتعليق، يأخذ الجدل الوطني حول إي عنوان من العناوين المقصودة، طابع التحدي والاستفزاز، ويتحول إلى "معول هدم" في بنيان الوحدة الوطنية، وأداة للتشهير بالمؤسسات والشخصيات والهويات والتطلعات، وعامل تأزيم للروابط والعلاقات بين مكونات الوطن الواحد.
ثم يطلع عليك من يحدثك عن فوضى الإعلام وعن الاعلام المخترق بمختلف الأجندات والمصالح ما عدا الأجندة والمصلحة الوطنيتين، في حين أن القاصي والداني يدركان على حد سواء، بأن انتقال الجدل إلى تلك المواقع الالكترونية، التي تحتل اليوم ذات المكانة التي احتلتها الصحف الإسبوعية بالأمس، ما كان ممكنا أصلا، وما كان ليثير كل هذا الاهتمام، ويستقطب كل هذا النزوح للكتاب والصحفيين، لو أن الصحف الوطنية (القومية على رأي الأشقاء المصريين) اضطلعت أو هي قيد الاضطلاع بدورها الطبيعي المسؤول في تفتيح أبواب الجدل والحوار وتنظيمة وتوفير منصة له، تليق به وبالقوى التي تحمل شعاره.
والغريب أن "ثقافة الخوف" التي جعلت من إعلامنا إعلاما مرعوبا على حد تعبير أحد رؤوساء الحكومات السابقين، لا تفعل الفعل ذاته عند الجميع هذه الأيام، ولا تفضي إلى تبنيهم نفس الأنماط السلوكية، خصوصا بعد أن ثبت لهم بأن قسطا وافرا منها افتراضي ووهمي، وإلا كيف نفسر كاتبا في جريدة يتمتع بسقف أعلى من كاتب آخر، وكيف نفسر احتفاظ جريدة بهامش حرية أوسع بكثير مما تتمتع به جريدة زميلة أخرى، وبم نفسر إقدام كثير من الزملاء – بمن فيهم كاتب هذه السطور – على نشر "الممنوع" من مقالاته على ألوف المشتركين والمواقع الأخرى، من دون أن يتعرض للمساءلة والمحاسبة، وكيف نفسر أن تتمتع بعض الأسبوعيات والمواقع بسقف حرية عال جدا بالمعنى النسبي، من دون أن نرى طوابير العاملين فيها أمام المحاكم وخلف القضبان.
ليست "ثقافة الخوف" هي وحدها من يجردنا من مسؤوليتنا ويبعدنا عن دورنا، فهناك أيضا أنماط من "الاحتواء الناعم" تدفعنا للقيام بدور الحسيب الرقيب نيابة عن كل أشكال الرقابات والجهات التي تمارسها، وهناك "الفولكلور" الذي يميز أداء النخبة السياسية الأردنية، والتي ما أن تضع قدمها على أول عتبات العمل العام، حتى تبدأ التفكير بالمنصب الوزاري والحكومي، حتى وإن ذهبت إلى الجحيم حرية الصحافة واستقلالية وسائل الإعلام.
والحقيقة أن الصحافة بوضعها الراهن تتحول يوما إثر آخر، إلى جزء من المشكلة بدل أن تكون جزءا من الحل، وتصبح سببا من أسباب المراوحة والركود بدل أن تكون محركا قويا من محركات التغيير وساحة تغلي بالأفكار المنسجمة والمصطرعة والرأي والرأي الآخر.
خلال الأسابيع القليلة الماضية، لم يبق رئيس حكومة سابق من دون أن تجري معه صحيفة أو موقع حوارا شاملا وموسعا، عرض فيه لتجربته وقراءاته واستخلاصاته، وهي فرصة ثمينة كان يمكن أن تطلق حوارا رفيع المستوى حول التجربة الأردنية في عقودها الثلاثة الأخيرة، لكن شيئا من هذا لم يحصل، والأغلب أن السبب في ذلك لا يعود فقط لحالة الكسل السياسي والفقر الفكري، بل وإلى القناعة الراسخة بأن حوارا كهذا لا يمكن أن يمر بسلاسة من بين شفرات مقصات الرقباء، وهم كثر، فيصبح من الأسلم تفادي الأمر والاستعاضة عنكل ذلك بتحليل أزمة نظام الملالي في إيران أو توجيه النقد لحكومة سلام فيّاض ؟!