ثرثرة على ضفاف الأدريتايك .. من «الكهف» إلى «معايير كوبنهاجن»

تم نشره الأحد 02nd آب / أغسطس 2009 03:04 مساءً
ثرثرة على ضفاف الأدريتايك .. من «الكهف» إلى «معايير كوبنهاجن»
عريب الرنتاوي

عندما كُسّرت الأقفال وفُتّحت الأبواب ، وخر ج الألبانيون بمئات الألوف من سجنهم الكبير إلى فضاء الحرية ، كانوا كـ"الفتية الذين آووا إلى كهفهم" مع فارق واحد هو أنهم كانوا يعرفون كم لبثوا في سجنهم ، وأن "بضاعتهم" كل بضاعتهم ، لم تعد صالحة للتداول ، ولم تعد معروفة للبشر من حولهم.

 

نائب اشتراكي من مدينة "دورس" على ساحل الأدرياتيك ، أبلغني وهو يجول بي في شوارع المدينة وشواطئها بسيارته الـ"بي أم دبليو" الفاخرة ، بأنه لم يصدق أبدا ما كان يروى أمامه عن أناس لديهم سيارات ، يقطعون بها مسافات طويلة ، فالسيارات لم تكن متوفرة إلا للزعيم أنور خوجة ورفاقه من قادة حزب العمال الحاكم ، وشوارع المدن الألبانية الضيقة لم تكن تشهد على أية حال سوى الدراجات وحافلات النقل الجماعي (اشتراكي الطراز) ، والقوانين على أية حال ، تحظر السفر التنقل لمسافات طويل حتى داخل البلاد.

 

على امتداد الشواطىء الألبانية الجميلة البالغة قرابة 500 كم ، زرع أنور خوجة ألوف "الملاجئ والتحصينات" وبدد عليها من الأسمنت والحديد المسلح ما يكفي لإسكان قرابة المليون ألباني ، والهدف بالطبع ، الاستعداد لمجابهة "غزو أعداء الثورة" المحتمل في أية لحظة.. وتحت ذات الشعار ، رفض خوجة فكرة بناء "الأوتوسترادات" مفضلا عليها الطرق الجبلية الضيقة ، حتى لا تستخدم الأولى لهبوط قوات معادية ، وكان الرجل المهجوس بكوابيس "العدو والغزو" يطلب إلى مواطنيه ، زرع "الرماح والخوازيق" في المساحات الزراعية الخالية من الزرع أو بعد انتهاء موسم الحصاد ، ليستقبلوا بها المظليين الهابطين على رؤوسهم ، ودائما بحجة أن لدى الألبان ما يثير شهية "الأعداء" للغزو ويحرك جشعهم وطمعهم القاتلين: لديهم الاشتراكية وأنور خوجة؟،.

 

لا أحد يريد أن يتذكر تلك الأيام ، ولا أحد لديه جواب مقنع عن الكيفية التي أحال بها حفنة من الرجال تحت مسمى الحزب ، شعبا بأكمله إلى أدوات ودمى صامتة في مسرح العرائس ، يفعلون بهم ما يشاؤون ، لا أحد يجد جوابا على سؤال: كيف يمكن لديكتاتور أن يقيم مملكة على الطراز الآسيوي ، نصف الإلهي ، في قلب أوروبا وعلى شواطئ الأدرياتيك ، وأن يعيث فسادا وتفكيكا في الأرض.

 

أجهز خوجة بقرار إداري فردي على روابط الدين (ألغاه وسحب الاعراف به) ، والأسرة (أحال أفرادها جواسيس بعضهم على بعض) والملكية الخاصة (لا شيء في ألبانيا خارج الملكية الجماعية) ، وعندما انهار النظام خرجت الأجيال التي عاشت في ظلاله فاقدة الوعي والبوصلة والاتجاه ، هاجر ألبانيا دفعة واحدة ربع سكنها في كل حدب وصوب ، امتطوا كل شيء يمكن ان يستخدم وسيلة نقل ، أما الذين بقوا منهم في ديارهم ، فكان عليهم دائما البدء من جديد: من رحلة الإنسان الأولى ، بحثا عن دين ومنزل وعائلة.

 

لم يكن أحد يدخل البلاد أو يخرج منها ، سوى بعض المناضلين الثوريين وفي فترات متباعدة ، أكثر أنماط البطالة إثارة للملل كانت تصيب العاملين في "المراكز الحدودية" التي لا يعبرها أحد على الإطلاق ، فالبلاد على امتداد حدودها إحيطت بسياج يبدو معه جدار برلين ، حلقة ضعيفة وخرقا أمنيا؟،.

 

بالرغم من علميته وعلمانيته ، لم يكن الديكتاتور الموزعة تماثيله وتماثيل أبيه الروحي جوزيف ستالين في كل مكان ، قد أنهى رحلة الإنسان الأول في بحثه عن "الخلود" ، لجأ إلى الفراعنة وأهراماتهم على ما يبدو ، وابتنى لنفسه (وهو حي) واحدا منها ، أحضر رخامه من إيطاليا "الإمبريالية" ، ودفن فيه عندما توفي في العام 1985 ، إلى أن اقتلعت عظامه من مثواه (غير الأخير) بعد انهيار النظام ، وأحيل الهرم ـ الضريح إلى مرقص يقضي فيه جيل جديد من شباب ألبانيا وشاباتها أوقاتا ممتعة ، تاركين لذويهم من كبار السن ، مهمة قص الحكايات ورواية الأعاجيب عن نظام فريد من نوعه ، لا شبيه له ولا شريك.

 

ذهبت إلى ألبانيا وليس في ذهني وذكراتي عن هذا البلد سوى جملة واحد: "هنا تيرانا ، صوت ألبانيا الشعبية" كانت ترددها مذيعة ألبانية لبرنامج من نصف ساعة كان يبث بالعربية ، ويحكي عن الماركسية الليبنية وحركاتها التي تتعزز وتتطور باطراد ، ويقدم أغاني ثورية في مختلف البلدان العربية ، إذاعة ألبانيا "الجائعة والفقيرة" كانت تبث بأربع وعشرين لغة ، كأي أو كأكبر دولة عظمى ، والهدف نشر الثورة العالمية وأفكار الزعيم.

 

ألبانيا اليوم تتقدم بسرعة وهي تتجه لعضوية الاتحاد الأوروبي ، وهي تريد أن تستعيد علاقاتها بالعالمين العربي والإسلامي ، ورئيس وزرائها صالح بريشا الذي استقبلني في مكتبه ، وهو من أهم رجالات عهد ما بعد انهيار النظام ، ملتزم بالحفاظ عل روابط بلاده بهذه المنطقة وفي كل المجالات ، ويسعى في تطويرها ، ولقد شكرني على استضافة نائب وزير الخارجية الصديقة إديت خارجي في ندوة نظمتها لها في عمان ، وهي أبلغتني أثناء تناول طعام الغداء بأن تلك الرحلة تركت في نفسها انطباعات لا تنسى ، وأنها ستأتي إلى عمان مرة ثانية ، في زيارات رسمية وعائلية ، فـ"البترا" مكان جميل ، ولا يجوز أن تراها وحدها ، فزوجها أيضا ينبغي أن يكون هناك ذات يوم ، تلكم هي حكاية "ملايين الألبان" مسلمين ومسيحيين ، وتلكم هي قصة كهفهم المرعب الذي احتبسوا فيه أربعين عاما وازدادوا خمسا.

 

ألبانيا الخارجة من رحم أبشع نظام وأحد أطول "الشموليات" عمرا في العصر الحديث ، تقترب بسرعة من "معايير كوبنهاجن" وشروط عضوية الاتحاد الأوروبي ، وهي تنشئ ديمقراطية حقيقية ، لشعب ثلاثة أرباعه من المسلمين ، لم تتوقف عن الماضي و"الخصوصية" الألمانية ، ولم يقل أحد أن شعبها غير جاهز وغير مهيأ للديمقراطية ، ألبانيا المحطة تبني ديمقراطية حديثه ، ليس في عالمنا العربي بأسره ، دولة تجاريها في معايير حرية الرأي والتعبير ، حقوق الإنسان والنساء ، تداول السلطة عبر صناديق الاقتراع.



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات