ثرثرة على ضفاف الأدريتايك .. من «الكهف» إلى «معايير كوبنهاجن»

عندما كُسّرت الأقفال وفُتّحت الأبواب ، وخر ج الألبانيون بمئات الألوف من سجنهم الكبير إلى فضاء الحرية ، كانوا كـ"الفتية الذين آووا إلى كهفهم" مع فارق واحد هو أنهم كانوا يعرفون كم لبثوا في سجنهم ، وأن "بضاعتهم" كل بضاعتهم ، لم تعد صالحة للتداول ، ولم تعد معروفة للبشر من حولهم.
نائب اشتراكي من مدينة "دورس" على ساحل الأدرياتيك ، أبلغني وهو يجول بي في شوارع المدينة وشواطئها بسيارته الـ"بي أم دبليو" الفاخرة ، بأنه لم يصدق أبدا ما كان يروى أمامه عن أناس لديهم سيارات ، يقطعون بها مسافات طويلة ، فالسيارات لم تكن متوفرة إلا للزعيم أنور خوجة ورفاقه من قادة حزب العمال الحاكم ، وشوارع المدن الألبانية الضيقة لم تكن تشهد على أية حال سوى الدراجات وحافلات النقل الجماعي (اشتراكي الطراز) ، والقوانين على أية حال ، تحظر السفر التنقل لمسافات طويل حتى داخل البلاد.
على امتداد الشواطىء الألبانية الجميلة البالغة قرابة 500 كم ، زرع أنور خوجة ألوف "الملاجئ والتحصينات" وبدد عليها من الأسمنت والحديد المسلح ما يكفي لإسكان قرابة المليون ألباني ، والهدف بالطبع ، الاستعداد لمجابهة "غزو أعداء الثورة" المحتمل في أية لحظة.. وتحت ذات الشعار ، رفض خوجة فكرة بناء "الأوتوسترادات" مفضلا عليها الطرق الجبلية الضيقة ، حتى لا تستخدم الأولى لهبوط قوات معادية ، وكان الرجل المهجوس بكوابيس "العدو والغزو" يطلب إلى مواطنيه ، زرع "الرماح والخوازيق" في المساحات الزراعية الخالية من الزرع أو بعد انتهاء موسم الحصاد ، ليستقبلوا بها المظليين الهابطين على رؤوسهم ، ودائما بحجة أن لدى الألبان ما يثير شهية "الأعداء" للغزو ويحرك جشعهم وطمعهم القاتلين: لديهم الاشتراكية وأنور خوجة؟،.
لا أحد يريد أن يتذكر تلك الأيام ، ولا أحد لديه جواب مقنع عن الكيفية التي أحال بها حفنة من الرجال تحت مسمى الحزب ، شعبا بأكمله إلى أدوات ودمى صامتة في مسرح العرائس ، يفعلون بهم ما يشاؤون ، لا أحد يجد جوابا على سؤال: كيف يمكن لديكتاتور أن يقيم مملكة على الطراز الآسيوي ، نصف الإلهي ، في قلب أوروبا وعلى شواطئ الأدرياتيك ، وأن يعيث فسادا وتفكيكا في الأرض.
أجهز خوجة بقرار إداري فردي على روابط الدين (ألغاه وسحب الاعراف به) ، والأسرة (أحال أفرادها جواسيس بعضهم على بعض) والملكية الخاصة (لا شيء في ألبانيا خارج الملكية الجماعية) ، وعندما انهار النظام خرجت الأجيال التي عاشت في ظلاله فاقدة الوعي والبوصلة والاتجاه ، هاجر ألبانيا دفعة واحدة ربع سكنها في كل حدب وصوب ، امتطوا كل شيء يمكن ان يستخدم وسيلة نقل ، أما الذين بقوا منهم في ديارهم ، فكان عليهم دائما البدء من جديد: من رحلة الإنسان الأولى ، بحثا عن دين ومنزل وعائلة.
لم يكن أحد يدخل البلاد أو يخرج منها ، سوى بعض المناضلين الثوريين وفي فترات متباعدة ، أكثر أنماط البطالة إثارة للملل كانت تصيب العاملين في "المراكز الحدودية" التي لا يعبرها أحد على الإطلاق ، فالبلاد على امتداد حدودها إحيطت بسياج يبدو معه جدار برلين ، حلقة ضعيفة وخرقا أمنيا؟،.
بالرغم من علميته وعلمانيته ، لم يكن الديكتاتور الموزعة تماثيله وتماثيل أبيه الروحي جوزيف ستالين في كل مكان ، قد أنهى رحلة الإنسان الأول في بحثه عن "الخلود" ، لجأ إلى الفراعنة وأهراماتهم على ما يبدو ، وابتنى لنفسه (وهو حي) واحدا منها ، أحضر رخامه من إيطاليا "الإمبريالية" ، ودفن فيه عندما توفي في العام 1985 ، إلى أن اقتلعت عظامه من مثواه (غير الأخير) بعد انهيار النظام ، وأحيل الهرم ـ الضريح إلى مرقص يقضي فيه جيل جديد من شباب ألبانيا وشاباتها أوقاتا ممتعة ، تاركين لذويهم من كبار السن ، مهمة قص الحكايات ورواية الأعاجيب عن نظام فريد من نوعه ، لا شبيه له ولا شريك.
ذهبت إلى ألبانيا وليس في ذهني وذكراتي عن هذا البلد سوى جملة واحد: "هنا تيرانا ، صوت ألبانيا الشعبية" كانت ترددها مذيعة ألبانية لبرنامج من نصف ساعة كان يبث بالعربية ، ويحكي عن الماركسية الليبنية وحركاتها التي تتعزز وتتطور باطراد ، ويقدم أغاني ثورية في مختلف البلدان العربية ، إذاعة ألبانيا "الجائعة والفقيرة" كانت تبث بأربع وعشرين لغة ، كأي أو كأكبر دولة عظمى ، والهدف نشر الثورة العالمية وأفكار الزعيم.
ألبانيا اليوم تتقدم بسرعة وهي تتجه لعضوية الاتحاد الأوروبي ، وهي تريد أن تستعيد علاقاتها بالعالمين العربي والإسلامي ، ورئيس وزرائها صالح بريشا الذي استقبلني في مكتبه ، وهو من أهم رجالات عهد ما بعد انهيار النظام ، ملتزم بالحفاظ عل روابط بلاده بهذه المنطقة وفي كل المجالات ، ويسعى في تطويرها ، ولقد شكرني على استضافة نائب وزير الخارجية الصديقة إديت خارجي في ندوة نظمتها لها في عمان ، وهي أبلغتني أثناء تناول طعام الغداء بأن تلك الرحلة تركت في نفسها انطباعات لا تنسى ، وأنها ستأتي إلى عمان مرة ثانية ، في زيارات رسمية وعائلية ، فـ"البترا" مكان جميل ، ولا يجوز أن تراها وحدها ، فزوجها أيضا ينبغي أن يكون هناك ذات يوم ، تلكم هي حكاية "ملايين الألبان" مسلمين ومسيحيين ، وتلكم هي قصة كهفهم المرعب الذي احتبسوا فيه أربعين عاما وازدادوا خمسا.
ألبانيا الخارجة من رحم أبشع نظام وأحد أطول "الشموليات" عمرا في العصر الحديث ، تقترب بسرعة من "معايير كوبنهاجن" وشروط عضوية الاتحاد الأوروبي ، وهي تنشئ ديمقراطية حقيقية ، لشعب ثلاثة أرباعه من المسلمين ، لم تتوقف عن الماضي و"الخصوصية" الألمانية ، ولم يقل أحد أن شعبها غير جاهز وغير مهيأ للديمقراطية ، ألبانيا المحطة تبني ديمقراطية حديثه ، ليس في عالمنا العربي بأسره ، دولة تجاريها في معايير حرية الرأي والتعبير ، حقوق الإنسان والنساء ، تداول السلطة عبر صناديق الاقتراع.