وليد جنبلاط مرة أخرى : إلى الخلف در؟

أفقد النائب وليد جنبلاط الغالبية النيابية المؤتلفة في إطار 14 آذار غالبيتها العددية وتمثيلها للطائفة الدرزية بكاملها ، عندما أماط اللثام عن نيته الانسحاب من "ائتلاف الضرورة" ، مشددا على وجوب "إعادة التفكير بتشكيلة جديدة من أجل الخروج من الانحياز وعدم الانجرار إلى اليمين".
وفي عملية نقد ذاتي مكثفة بدأها قبل أشهر ووصلت ذروتها أمس الأول في اجتماع هيئة الحزب الاشتراكي العمومية في فندق البوريفاج في بيروت ، وصف جنبلاط زياراته لواشنطن وتحالفه معها زمن حكم المحافظين الجدد وإدارة جورش دبليو بوش ، بـ"نقطة سوداء في تاريخ حزبه الأبيض" حين ذهب إلى "اللامعقول" والتقى "مع المحافظين الجدد في أميركا من أجل حماية ما يسمى ثورة السيادة والحرية والإستقلال" ، مشددًا في المقابل على "ضرورة إقامة علاقات مميزة مع سوريا".
مراجعة جنبلاط النقدية لتجربته وتجربة حزبه ، ذكرتني بمقال كتبته في هذه الزاوية قبل 13 شهرا بعنوان "تحولات وليد بيك جنبلاط" ، يومها قلت أن "وليد جنبلاط قلب ظهر المجن لحلفائه في ائتلاف الرابع عشر من آذار ، وأخذ يغرد خارج سرب "ثورة الأرز" التي كان له دور حاسم في إطلاقها وتوجيهها وإكسابها طابعها الخاص ، فالرجل استيقظ على "عروبته المنسية" ، وتذكر أن "فلسطين" هي بوابة العروبة ، وأن ترك العروبة وفلسطين ، لن يفضي سوى إلى "الانعزال" و"الانعزالية".
ما الذي دفع جنلاط للانقلاب على حلفائه واتهام تيار المستقبل بالعمل على إذكاء الفتنة الطائفية والمذهبية ، وخوض معارك لا أفق سياسيا لها وتقوم على كراهية الآخر ورفضه؟ هل هي التقلبات المعتادة لجنبلاط ، هذا أمر ممكن ، فالرجل سريع التقلب والعطب ولا يمكن الركون إليه لفترات طويلة. هل هي قرون الرجل الاستشعارية وقد أنبأته بأن ائتلاف 14 آذار وفرسان ثورة الأرز ، هم خيول خاسرة حتى وإن ربحت الانتخابات؟ لماذا يستمر الرجل في تحوّلاته بالرغم من انتهاء الدوافع الانتخابية الانتهازية ، هل هي دروس 7 أيار وسقوط بيروت بساعات في أيدي مقاتلي حزب الله ، هل هي الخشية من أن تواجه طائفته الصغيرة مصيرا مماثلا؟.
أيا تكن دوافع وليد بيك ، فإن ما يقوله الرجل اليوم ويفعله ، ليس في حقيقة الأمر سوى "نصر مجاني خالص" لخصومه ومجادليه ، وخصوصا لحزب الله وحسن نصرالله اللذين وهزيمة صافية بالأخص لتيار المستقبل الذي يجد نفسه اليوم وحيدا تحت مظلة واحدة مع رموز ميليشياوية كسمير جعجع وقواته اللبنانية.
في الثامن عشر من آذار الفائت ، قلت في هذا الزاوية ، وتحت عنوان "جنبلاط إذ ينأى بأبيه عن شهداء الأرز": أن الزعيم الدرزي يؤثر أن "يأتي والده يوم القيامة أمة وحده" ، وأن يحفظ لأبيه ذكراه كزعيم عربي - فلسطيني - يساري ، فهذا هو إرث جنبلاط الأب ، الذي كان منافحا عن فلسطين ، نصيرا لقضيتها وسندا لكفاح أهلها ، وكان رمزا قوميا بارزا وزعيما لتيار واسع من اليساريين اللبنانيين والفلسطينيين والعرب ، كان رمزا من رموز الإصلاح والتغيير في لبنان ، سبق الجميع إلى طرح هذا الشعارات ، وقبل أزيد من أربعين عاما على انتشارها وشيوعها وتحوّلها إلى عناوين وأسماء لكتل وتيارات سياسية وفكرية عربية عديدة.
في "مكان ما" في ذاكرة جنبلاط الإبن ، تبدو هذه الصورة لأبيه حاضرة وبقوة ، ولا شك أن هناك الكثير من الأشخاص والوقائع التي تعد تذكرةً لجنبلاط الإبن بالزمن الجميل ، زمن التحالف الوثيق بين المقاومة الفلسطينية بزعامة ياسر عرفات والحركة الوطنية اللبنانية بزعامة كمال جنبلاط ، زمن بيروت حاضنة الثقافة والفكر وحركات التحرر العربية ، زمن الجبل ـ القلعة العصية على الاختراق الصهيوني ـ الانعزالي ، زمن النضال من أجل لبنان ديمقراطي وفلسطين محررة.
قلت يومها: أحسب أن جنبلاط ، وفي "مكان ما" من وعيه وضميره ، خَجّل بتحالفاته الراهنة ، أو بعضها على الأقل ، خصوصا تلك التي لطالما اصطف أصحابها في الخندق المقابل لفكر والده وممارسته وتحالفاته ، أحسب أن جنبلاط الابن ، وهو يصافح بعضا من حلفائه اليوم ، تداهمه صورة أبيه وهو يندد بهؤلاء وتحالفاتهم ومواقفهم واصطفافاتهم الاجتماعية والسياسية والثقافية والقومية ، وها هو جنبلاط الابن يصف هؤلاء بـ"الجنس العاطل" ، ويتوّج رحلة مراجعاته بالحديث عن "وصمة العار" و"اللطخة السوداء في رداء الحزب الأبيض".
جنبلاط دخل في مرحلة مراجعة قد تستمر لسنوات قادمة ، قد ينتقل إلى صفوف المعارضة (التي ستصبح به وبكتلته أكثرية راجحة) لكن الرجل سيشق على الأرجح طريقا ثالثا مع آخرين ، فيما الأرض اللبنانية ستظل تميد تحت وقع الهزة التي تسبب بها ، بعد أن بات من المؤكد أن لبنان قد دخل في نفق عملية فك وتركيب لتحالفاته ، سنرى في خواتيمها مسميات جديدة لرمز وأحزاب وشخصيات قديمة ، فتلكم هي سيرة لبنان وميزته ، لا أحد يموت فيه برغم انتشار تجارة الموت المجاني لسنوات وعقود؟،.