سيجارة في المقبرة

كنا صغارا حين كنا نهرب من المدرسة ، الى المقبرة القريبة ، ونجلس لتدخين السجائر الرديئة ، بعيدا عن عينيّ "المدير" الذي يبيعنا الفضيلة ، علنا ، فيما كان يتلصص على جسد "عاملة النظافة" الفقيرة في مدرسة الاناث المجاورة ، سرا ، بصلعته البلهاء ، وشاربيه المغموسين في "نذالة" لا تتوقف ، مراودا اياها عن نفسها ، وقبل ايام شاهدت ذات المدير وقد تكور كرشه بقطر "منسف" كبير ، وقد ارتدى دشداشة متسخة ، وحذاء بلاستيكيا مقطعا ، وتوكأ على عصا رخيصة ، وبالكاد يمشي ، وانزلق الى المسجد للصلاة ، مرتديا قناعا من توبة ، وعفافا كاذبا لغايات اجتماعية زائفة ، كالترحم على طهره وزهده بعد الوفاة.
رؤية المدير التي تغم على الصدر ، حتى هذه الايام ، جعلتني اتذكر زميلي في الثانوية العامة ، الذي رحل مبكرا ، فذهبت امس الى قبره ، قرأت له الفاتحة ، ووضعت علبة سجائر "مارلبورو لايتس بيضاء" على قبره مع علبة كبريت ، فارتجفت عظامه قليلا من وجود السجائر الامريكية فوق قبره ، لكنني لم اقصد اهانته ، انما جاء ذلك احساسا بغيابه عني ، واستذكارا للماضي الرائع حين كنا نشتري علب السجائر لبعضنا ، ومن اجل ان ابلغه ان كل شعارات "المقاطعة والممانعة" سقطت ، بحمد الله ، وقرأت له قليلا من شعر عرار ومحمود درويش ، وووضعت عند قبره اخر فاتورة كهرباء لمقر لحزب الشيوعي الاردني ، عله يسددها ، ومسودة قرارات حكومية في العشر السنوات الاخيرة ، متضمنة رفع اسعار الاف السلع.
خرج صديقي من قبره ، كان عاريا ، وانا كنت لابسا ، اشعلت له سيجارته ، بهدوء.. وقال ان مذاق السيجارة لذيذ وانها على ما يبدو صناعة محلية ، طمأنته ساخرا بأنها مهربة ، وانني كعادتي لا استمتع ابدا بالمشي تحت ظل الجدار والقول "يا رب الستر الستر" ، ولذلك ابحث عن سجائر مهربة دوما ، تبسم وسألته كيف احواله ، قال ياصديقي.. "حين مت ارتديت كفنا فاخرا ، وتم دفني بين "عواجيز" ولاني كنت الوحيد الذي يلبس الكفن ، اثار الموتى جنوني ، كل واحد يقول يستغلني ويقول لي... "انت الوحيد اللي لابس بيننا روح جيب جريدة" ، والثاني يقول لي "انت لابس روح جيبلنا فتة حمص" والثالث يقول "انت الوحيد اللابس روح جيب سجائر" ، والرابع يقول لي "انت الوحيد اللابس تعال اعملي مساج" ، والرابع تحديدا نظراته غير مريحة ، وهكذا استلموني الواحد تلو الاخر ، كلهم ختيارية ، وكلهم بلا اكفان ، وحسدوني حتى على كفني ، وشغلوني مراسلا عندهم ، في المقبرة.
سحب صديقي العاري ، نفسا من سيجارته التي هربجت ، وقال... "استمر الحال هكذا عدة اسابيع ، حتى اهترأ كفني ، وكلما جاء ميت جديد ، حسده الموتى على موته وعلى كفنه ، وشغلوه مراسلا لهم ، يذهب هنا وهناك لقضاء الحاجات ، آخر ميت استراح في قبره لحظات ، حتى جاءت اليه "عجوز" وطلبت منه شراء بطيخة من "المعرش القريب" لانه الوحيد اللابس لملابسه او للكفن ، فرفض الميت ، في المرة الاولى ، وتمرد وابى ، حتى تجمع عليه اهل المقبرة ، وهددوه بأن عليه ان يذهب لشراء البطيخة ، فوافق ، لكنه حين عاد.. عاد اليهم بلا ملابس من اجل ان يحرمهم متعة ارساله الى التسوق ، من خارج المقبرة ، مرة اخرى ، وحتى لا يقول له الموتى "انت الوحيد اللي لابس".
سألت صديقي.. بهل اصبح مثل بقية اهل المقبرة ، يطلب من الموتى الجدد ان يذهبوا للتسوق من المحلات القريبة لانهم يرتدون ملابس ، فيما هم عراة ، فرد علي بأنه حاول في البداية ان يحافظ على كل شعاراته الثورية حول حقوق الاخرين ، وعدم اضطهاد الطبقات العمالية ، لكنه اكتشف انه سيموت من الجوع ، مما دعاه الى الانضمام الى طوابير الموتى العراة في الضغط على اي ميت جديد "لابس لملابسه" وارساله الى السوق من اجل التسوق.... سحب صديقي آخر نفس من السيجارة ، دس علبة المارلبورو في جيبه ، وودعني ، لان "ميتا لابسا" ذهب لاحضار القطائف وقد وصل من اجل اعدادها ، قبيل اذان المغرب.
"انت الوحيد اللي لابس" شعار قديم واساسي في نظرة حكوماتنا المتعاقبة الى المواطن الاردني.
mtair@addustour.com.jo