سيجارة في المقبرة

تم نشره الأربعاء 26 آب / أغسطس 2009 02:57 صباحاً
سيجارة في المقبرة
ماهر ابو طير

كنا صغارا حين كنا نهرب من المدرسة ، الى المقبرة القريبة ، ونجلس لتدخين السجائر الرديئة ، بعيدا عن عينيّ "المدير" الذي يبيعنا الفضيلة ، علنا ، فيما كان يتلصص على جسد "عاملة النظافة" الفقيرة في مدرسة الاناث المجاورة ، سرا ، بصلعته البلهاء ، وشاربيه المغموسين في "نذالة" لا تتوقف ، مراودا اياها عن نفسها ، وقبل ايام شاهدت ذات المدير وقد تكور كرشه بقطر "منسف" كبير ، وقد ارتدى دشداشة متسخة ، وحذاء بلاستيكيا مقطعا ، وتوكأ على عصا رخيصة ، وبالكاد يمشي ، وانزلق الى المسجد للصلاة ، مرتديا قناعا من توبة ، وعفافا كاذبا لغايات اجتماعية زائفة ، كالترحم على طهره وزهده بعد الوفاة.

رؤية المدير التي تغم على الصدر ، حتى هذه الايام ، جعلتني اتذكر زميلي في الثانوية العامة ، الذي رحل مبكرا ، فذهبت امس الى قبره ، قرأت له الفاتحة ، ووضعت علبة سجائر "مارلبورو لايتس بيضاء" على قبره مع علبة كبريت ، فارتجفت عظامه قليلا من وجود السجائر الامريكية فوق قبره ، لكنني لم اقصد اهانته ، انما جاء ذلك احساسا بغيابه عني ، واستذكارا للماضي الرائع حين كنا نشتري علب السجائر لبعضنا ، ومن اجل ان ابلغه ان كل شعارات "المقاطعة والممانعة" سقطت ، بحمد الله ، وقرأت له قليلا من شعر عرار ومحمود درويش ، وووضعت عند قبره اخر فاتورة كهرباء لمقر لحزب الشيوعي الاردني ، عله يسددها ، ومسودة قرارات حكومية في العشر السنوات الاخيرة ، متضمنة رفع اسعار الاف السلع.

خرج صديقي من قبره ، كان عاريا ، وانا كنت لابسا ، اشعلت له سيجارته ، بهدوء.. وقال ان مذاق السيجارة لذيذ وانها على ما يبدو صناعة محلية ، طمأنته ساخرا بأنها مهربة ، وانني كعادتي لا استمتع ابدا بالمشي تحت ظل الجدار والقول "يا رب الستر الستر" ، ولذلك ابحث عن سجائر مهربة دوما ، تبسم وسألته كيف احواله ، قال ياصديقي.. "حين مت ارتديت كفنا فاخرا ، وتم دفني بين "عواجيز" ولاني كنت الوحيد الذي يلبس الكفن ، اثار الموتى جنوني ، كل واحد يقول يستغلني ويقول لي... "انت الوحيد اللي لابس بيننا روح جيب جريدة" ، والثاني يقول لي "انت لابس روح جيبلنا فتة حمص" والثالث يقول "انت الوحيد اللابس روح جيب سجائر" ، والرابع يقول لي "انت الوحيد اللابس تعال اعملي مساج" ، والرابع تحديدا نظراته غير مريحة ، وهكذا استلموني الواحد تلو الاخر ، كلهم ختيارية ، وكلهم بلا اكفان ، وحسدوني حتى على كفني ، وشغلوني مراسلا عندهم ، في المقبرة.

سحب صديقي العاري ، نفسا من سيجارته التي هربجت ، وقال... "استمر الحال هكذا عدة اسابيع ، حتى اهترأ كفني ، وكلما جاء ميت جديد ، حسده الموتى على موته وعلى كفنه ، وشغلوه مراسلا لهم ، يذهب هنا وهناك لقضاء الحاجات ، آخر ميت استراح في قبره لحظات ، حتى جاءت اليه "عجوز" وطلبت منه شراء بطيخة من "المعرش القريب" لانه الوحيد اللابس لملابسه او للكفن ، فرفض الميت ، في المرة الاولى ، وتمرد وابى ، حتى تجمع عليه اهل المقبرة ، وهددوه بأن عليه ان يذهب لشراء البطيخة ، فوافق ، لكنه حين عاد.. عاد اليهم بلا ملابس من اجل ان يحرمهم متعة ارساله الى التسوق ، من خارج المقبرة ، مرة اخرى ، وحتى لا يقول له الموتى "انت الوحيد اللي لابس".

سألت صديقي.. بهل اصبح مثل بقية اهل المقبرة ، يطلب من الموتى الجدد ان يذهبوا للتسوق من المحلات القريبة لانهم يرتدون ملابس ، فيما هم عراة ، فرد علي بأنه حاول في البداية ان يحافظ على كل شعاراته الثورية حول حقوق الاخرين ، وعدم اضطهاد الطبقات العمالية ، لكنه اكتشف انه سيموت من الجوع ، مما دعاه الى الانضمام الى طوابير الموتى العراة في الضغط على اي ميت جديد "لابس لملابسه" وارساله الى السوق من اجل التسوق.... سحب صديقي آخر نفس من السيجارة ، دس علبة المارلبورو في جيبه ، وودعني ، لان "ميتا لابسا" ذهب لاحضار القطائف وقد وصل من اجل اعدادها ، قبيل اذان المغرب.

"انت الوحيد اللي لابس" شعار قديم واساسي في نظرة حكوماتنا المتعاقبة الى المواطن الاردني.

mtair@addustour.com.jo



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات