كيف يتحول الصحافي من مبدع متحمس الى موظف مرعوب

"ان جمهوريتنا (الامريكية) وصحافتها سوف تنهضان او تنهاران في الوقت نفسه. فالصحافة القديرة, النزيهة (المتجردة), التي تهتم بالصالح العام, والمتمتعة بعقول ذكية مدربة لمعرفة ما هو صائب, والتي تمتلك الشجاعة لتحقيقه, بإمكانها المحافظة على تلك الفضائل العامة التي من دونها تكون الحكومة الشعبية التمثيلية صورية, ومدعاة للسخرية. فالصحافة المتهالكة التي تشكك بالفضائل البشرية, والمرتزقة, والغوغائية سوف تنتج مع الوقت شعبا خسيسا مثلها. فسلطة صياغة مستقبل الجمهورية (الأمريكية) ستكون في أيدي صحافيي الأجيال القادمة".
هذا الاقتباس الذهبي لجوزيف بوليتزر ناشر وصحافي أمريكي من أصل مجري مات قبل قرن تقريبا ليرتبط اسمه اليوم بجائزة سنوية للإنجازات في مجالات الصحافة والفن والادب والموسيقى بعد ان رفع لواء ضرورة تدريس مهنة وفنون الصحافة والاعلام في جامعات بلاده.
في غياب ذلك, يقول بوليتزر, سيتعلم الصحافي مهنته على حساب الجمهور والوطن. فعمل مهني ذو مسؤولية كبيرة كهذا بحاجة لأوسع المعارف وأعمقها ولتأهيل منظم مدى الحياة ولمجتمع يحضن الفرد المبتدع بدلا من ان يعمل على صهره في قالب الجماعة والتبعية والولاء للعصبيات.
هذه خلاصة رؤى بوليتزر الثاقبة التي عبر عنها في مقال له عام 1904 دعا فيها لتأسيس اول كلية للصحافة في العالم لتدريب الصحافيين والمحررين والمراسلين على قواعد وأصول المهنة التي باتت تعرف بالسلطة الرابعة احد مداميك بناء او تدمير الدولة.
وقتئذ استبق بوليتزر مجتمعا مشككا كان يرى في الصحافة حرفة يدوية يمارسها أناس تعساء ملطخة ايديهم بالحبر الاسود بدلا من وضعهم في خانة من يعمل عملا أدبيا او فكريا كما كانت الحال في اوروبا.
وتابع قائلا: في هذه المقالة المفصلية: "ان السعي الدؤوب للحصول على اخبار وتقديمها بصورة مستقلة هي الطريقة الوحيدة التي تخدم بها الصحافة الصالح العام. على برامج ودوائر وكليات تعليم الصحافة ان تصبح المواقع التي تترعرع فيها هذه المفاهيم وتتم حمايتها والدفاع عنها من دون كلل".
عرض على جامعة كولومبيا المال لإنشاء اول كلية للصحافة والاعلام في الولايات المتحدة. ماطل مجلس الادارة في قبول المنحة لسنوات. افتتحت الكلية عام 1912 - بعد موته بسنة - لتصبح ثاني كلية تدرس هذا المساق بعد جامعة ميزوري الامريكية.
بعد اندلاع الحرب العالمية الاولى ظهرت اهمية الصحافة في نشر الانباء مما دعا الى الاهتمام بمناهج التدريس والتخصص الجامعي في امريكا واوروبا.
ثبت مع السنوات أنه على حق.
فالصحافة مهنة علم وفن وموهبة ومهارات ومعارف وقيم يمكن اكتسابها وتطويرها لتختلط مع استعداد طبيعي ورغبة ملحة تحاكي نداء صادرا من أعماق الشخص في ملاحظة الحياة والناس ورغبة بأن يمثل عين القارئ ويحمل قضية تهم الرأي العام ويكتب سجل التاريخ الاول.
مهنة تحتاج لعلم موضوعي يخضع لقوانين ونظريات, ولفن يخضع للإبداع الفردي الذاتي, ولقلم نزيه قادر ان يعبر عن فكر ومضمون بجرأة وموضوعية ونسبة عالية من الحياد.
فالصحافة مهنة لها سمات وخصائص المهن الفنية الاخرى و صناعة قائمة بذاتها لها اقتصادياتها الخاصة.
في أمريكا تعلم الجميع درس الاعلام من بوليتزر ومن طور المهنة والصناعة من بعده.
لكن شتان ما بين واقع العمل الاعلامي حسب رؤى بوليتزر وواقع الحال في غرف التحرير الاعلامية, الرسمية, شبه الرسمية, والخاصة في العالم الثالث, والاردن جزء منه. حيث يتحول اي مشروع اعلامي مبدع الى موظف بائس مرعوب يصارع ليل نهار لضمان الحد الادنى من متطلبات العيش الكريم له ولاسرته على حساب متطلبات "الكار".
بدأ, الصحافي الاردني نتاج محيطه المباشر وغير المباشر بدأ بالمنزل, الجيرة, المدرسة, الحارة والجامع, إنتهاء بمكان عمله وبشبكة علاقاته. هذه التجارب يفترض ان تكسبه معارف ومهارات وقيما يمكن تطويرها تعليما وتدريبا لتشكل أساسيات أي مهنة مهما كانت.
البداية في المنزل. الصحافي انتاج نظام أبوي يقتل الابداع الشخصي ويلغي حق الفرد في التفكير بطريقة منطقية. كلمة كبير العائلة مُنَزّلة والجميع تابع, تحت طائلة المعاقبة.
في أغلب المدارس مناهج تعليمية جامدة تتزاوج مع نظام تدريسي لا يهتم بشمولية التربية والتعليم. التركيز على التلقين والغاء العقل. هناك لا مكان للتركيز على اسس المواطنة الصالحة وعلى مهارات العيش الضرورية بما فيها أدب الحوار واحترام التعددية وصون المال العام.
جامعات حكومية تعمل بأكثر من طاقتها الاستيعابية والتعليمية وجامعات خاصة تهتم بتعظيم هامش الربح على حساب جودة المنتج. مدرسون جامعيون حالهم كحال الموظفين العاملين في القطاعين العام والخاص. يعانون الامرين من الاحباط وتدني المعاشات وتفشي الوساطة والمحسوبية والعصبيات.
كليتا الصحافة والاعلام في الاردن, الاولى حكومية والثانية خاصة ليست احسن حالا. تواجه تحدي تحديث المناهج والتخصص في مساقات اعلامية في عصر ثورة المعلومات والاتصالات التي باتت تتطلب ان يمكن الاعلامي نفسه بمهارات متعددة للتعامل مع تقنيات المواقع الالكترونية وتداخل حدود ادوار الاعلام التقليدي من راديو وتلفزيون وصحافة. جل تركيز المناهج على الجانب النظري لا التطبيقي.
بعد التخرج تبدأ رحلة البحث عن وظيفة صحافية في وسيلة محترمة في غياب اسس الديمقراطية والمساءلة وتداخل السلطات. تتفاعل مع هذه العوامل اقتصاديات وسائل الاعلام والحسابات الشخصية لمالكيها وناشريها ورؤساء تحريرها.
في أحسن الاحوال, يعين الاعلامي المبتدئ بوظيفة في أدنى سلم الرواتب - حوالي 180 دينارا شهريا. اغلبهم لا يخضع لدورات تدريبية داخلية ليتعلم مهنيات وقيم المؤسسة. عدد قليل من المحررين او الصحافيين من اصحاب الخبرة يرغبون في نقل مهاراتهم او تعليم قواعد وأدوات المهنة بحكم الخبرة التراكمية.
بعد ذلك, تدخل حسابات المحرر ورئيس القسم ورئيس التحرير. الجهات الثلاث تتعامل مع المادة الصحافية المقدمة على مقاس حسابات وعصبيات وخوف من المرجعيات الامنية والسياسية في غياب دليل مهني يوفر مرجعية لأسرة الوسيلة ويشجع على المحاسبة في حالة وقوع اخطاء. رؤساء التحرير يعملون من دون رقابة او محاسبة, وأغلبهم معزول عن اقسام المؤسسة ويتعامل مع الكادر من خلال أعوان.
بعد عدة سنوات, ومن خلال مبادرة ذاتية, يظهر بعض هؤلاء الاعلاميين الجدد طموحا بلا حدود لتطوير مهنيتهم وتحسين دخلهم بعد تعزيز اسمهم في السوق. تبدأ رحلة البحث عن فرص جديدة داخليا وخارجيا هربا من التجربة التي مروا فيها. المحظوظ منهم يجد عملا مع اربع جهات اعلامية, لكن المعاناة تعود مرة أخرى للتوفيق بين متطلبات المهنة والمرؤوسين. مع مرور الوقت يرفع الاعلامي يديه, يخفض طموحه, ثم يقول لنفسه "وأنا مالي". يستنتج ان اسس الترقية في العمل تظل محصورة مرؤوسه مهما كان. يصبح جزءا من لعبة صراع الوجود والبقاء. يستسلم للقضاء والقدر ويتعلم فن النفاق والمراوغة وازدواجية المعايير ليضمن استمراريته على حساب رغبته في متابعة الاحداث وكشف الحقائق.
بالطبع يقف المجتمع بتابوهاته ومحرماته الثقافية والدينية وعاداته وتقاليده كعائق آخر امام الاعلامي. السلطة تتوقع من الاعلامي ان يعمل كجهاز دعاية وبوق تعبئة بدلا من ان يعكس واقع المجتمع ويكون حلقة الوصل بين الشارع والمسؤول.
يبدأ الاعلامي حياته يدور في حلقات وينتهي فيها. البعض القليل منهم ينجو ويحقق ذاته كصحافي مهني موهوب او كاتب له حضور ويحظى بشرعية مهنية ومجتمعية.
التحدي الاكبر الذي يواجه الصحافيين هذه الايام لاكتساب المعرفة من خلال المطالعة والتخصص والتدريب المستمر لمواكبة التطور التقني وتداخل الاعلام وقوالبه التحريرية اضافة الى اجادة اللغات ومهارات الحاسوب. وهنا الطامة الكبرى. حسب إستطلاع خاص قام به مركز تدريب إعلامي فإن سبعين بالمئة من العاملين في الجسم الاعلامي يفوق ال¯ 42 عاما - ومن شب على شيء شاب عليه. 17 بالمئة منهم لا يعارضون مبدأ جرائم الشرف.
في هذه الأثناء, يجاهد جيل جديد, من بين ابنائه وبناته عدد كبير لم يفقد بعد الحماسة لتحسين الواقع لكنه يلاقي مواجهة شديدة من الاجيال التي سبقته.
الحل الامثل يكمن في التركيز على فرص التدريب المهني بصورة مستمرة لهؤلاء الشباب وعلى مأسسة قنوات لتمرير الخبرة الشخصية والتراكمية بين جميع الاجيال داخل المؤسسة.
فأبناء الجيلين لن يستطيعوا احتكار المعرفة والتخندق وممارسة الاقصاء... عليهم التعاون وخلق التوافق كي لا تذهب جهود الاصلاح الاعلامي سدى.
الجيل الجديد
سنة 1892 عرض صاحب الرؤى البعيدة بوليتزر, صاحب جريدة نيويورك ورلد على جامعة كولومبيا المال اللازم لإنشاء اول كلية للصحافة في العالم. وهذا صحيح.
مجري أصبح من أكبر ناشري الصحف في تاريخ بلاده الحديث وصاحب جائزة تحمل اسمه وتحمل اقتباسا لجوزيف بوليتزير 10 نيسان 1847 في هنغاريا - 29 تشرين الاول 1911 في كارولاينا الجنوبية. كان صحافيا وناشرا مجريا - أمريكيا, أصبح من أكبر ناشري الصحف الأمريكيين في التاريخ. استحدث جائزة بوليتزر للإنجازات في مجالات الصحافة والأدب والموسيقى والفن.0
.