المحطة الاخيرة :الازمة الجماعية بين العجز والطموح

الانحياز موقف. ولكن الى من تنحاز بين «فرقاء» هذه الأوطان؟، بالهروب من هذا «الهلام المفروز» الى الوطن ، يستحيل الكلام برمته الى «وعظ» لا لزوم له.
على «الدكة» الاولى من «موت الانحياز» ، يصفعك تكرار البديهيات عن «العدو الواحد» والواضح. وكأن «وضوح العدو» هو فقط ما كان يوحد الناس ، ما يعني ان هذه الامة لم تولد الا للحرب ، امة لم تجد وقتا ، طوال تاريخها العريض ، تنتج فيه حياتها المدنية ، وتبدع فيه حضارتها.
على هذه «الدكة» ، لا ابتكارات ولا بدائل ، سوى المجابهة والمواجهة ، فلا شيء تغير في هذا الكون ، والتطورات تقضي بالتكيف مع متغيرات تحيل المصائر الى فراغ. لا شيء سوى التحدي. ثقافة من التحدي المفرط ، والفائض ، تدفع العقل قسرا ، الى الذهاب الى مخدع الكسل ، كي لا نقول النوم ، او البحث عن «دكة» اخرى.
في الدكة الاخرى من الانحياز تكف الاشياء التي كانت تتكرر عن التكرار ، فتشتعل الرغبات العارمة بتجديد وتأييد وتكرار الدوران ، تجديد يصطدم ، اول ما يصطدم ، بدكة الاخر ، الذي تحول من شريك الى خصم ، ومنه بسرعة الى عدو ، فيكفّ الوطن عن كونه وطنا.
هما دكتا موت على هيئة مقيدة. بهما ، وفيهما ، تُستنزف طاقة الافراد والجماعات على العيش. نزف يستمر ، في العادة حتى اقصاه ، وان توقف ، لسبب ما ، يكتشف الجميع ان الاشياء لم تعد كما كانت ، وان المفاهيم والافعال والقيم فقدت الكثير من دلالاتها الحسية والرمزية.
هكذا تموت الجماعة ، وتختفي ، وهكذا تموت ثقافة الجماعة ، وتتلاشى ، وحتى قيم الشجاعة والتضحية والشرف ترحل من دلالاتها العملية والواقعية في حياة الناس ، فتتحول بسرعة الى عوالم اسطورية بعيدة ، تُعجب الناس «كفرجة وقصة» ، من دون ان يرغب احد في عيشها ، او السماح لها بالتحكم في حياته.
بسرعة تمر هذه الايام ذكرى الاستقلالات الوطنية ، لا يتوقف احد طويلا عند معناها بالامس ومعناها اليوم ، بالاقتصاد والتقنيات والاتصالات ، لم يعد استقلال الجماعة البشرية يعني ما كان يعنيه ، عند تحققه للمرة الاولى ، فلا السيادة سيادة ، ولا الهويات الموحدة ظلت تشع بقيمتها امام ثقافات مفتوحة ، واخرى جديدة تتكون.
لأفراد الجماعة نمط حياتهم الخاص ، ولهم مصادر ايمانهم وعقائدهم ، وللجماعة وافرادها ايضا ، وبسبب نمط العيش ، منظومة قيم اخلاقية واجتماعية ، يلتزم بها الجميع في علاقاتهم بينهم ، ويلتزمون بها في علاقاتهم مع الافراد ، وهذا كله هو مبرر استمرار الجماعة وعيشها الخاص ، وهويتها وثقافتها ، استمرار تحميه سيادة تملك وسائل العيش ونمطه واسلوبه ، فان تغير او اختفى ، تغيرت السيادة او تلاشت.
حين تعجز الجماعة البشرية ، بدائية كانت ام متقدمة ، عن ابتكار بدائل ووسائل ، وتؤهلها لمواجهة ما يحدث من متغيرات وتطورات جارفة او صغيرة متراكمة ، فلا مصير لها سوى الفناء والتلاشي ، اذ تموت الجماعة ، بنمط عيشها وثقافتها وسيادتها ، بالذوبان والاندماج في كيان ، او كيانات ، اخرى مختلفة ، قادرة على تأمين اسباب البقاء للافراد ، تختفي الجماعة ، بحسب منطق الغالب والمغلوب ، ويبقى الافراد ، ولكنهم افراد اخرون ، بعيش اخر ، وبثقافة اخرى.
يقال ان «من يستطيع تغيير ما بنفسه هو انسان حر». ولكن كيف يمكن للجماعة ان تبقى حرة حين تنقسم على نفسها؟،
هذه امة خُلعت اضلاع قفصها الصدري ، فانكشفت رئتاها امام البحر والاساطيل. ورغم هذا ، فانها لم تتعلم بعد كيف تحافظ على ما تبقى من ضلوع صدرها المفتوح على المتوسط،،