صناديق الاقتراع إذ تعيد الاعتبار لـ «الرأسمالية» و«السوق»

لم يمض سوى عام واحد ، حتى كانت الأزمة المالية والاقتصادية التي اجتاحت العالم وألحقت باقتصاداته خسائر "فلكية" ، في طريقها إلى الانحسار والتراجع ، وها هي تقديرات بيوتات الخبرة وتكهناتها ، تبشر بقرب استعادة "معدلات النمو" وانتعاش الأسواق وارتفاع أسعار "الخام" و"العقار" و"الذهب" و"الأسهم" ، وإن بتفاوت وتردد.
خلال هذه السنة الصعبة على الجميع ، خصوصا دول العالم الثالث ، انتعشت نظريات اقتصادية تبشر بانهيار الرأسمالية وأفول نجمها ، وتستعجل العودة لنظريات اقتصادية سابقة أو تدعو لتطوير نظريات اقتصادية جديدة ، فمنهم من نفض الغبار عن كارل ماركس وأعاد الاعتبار لـ"رأس المال" ، ومنهم من رأى أن الأزمة جاءت مصداقا للنظرية الإسلامية في الاقتصاد ، أو على الأقل ، حافزا على تطوير هذه النظرية وتعميمها.
لكن أكثر الكتابات جدية ، تلك التي استمهلت إعلان النهاية ، ورأت أن الرأسمالية ما زالت قادرة على تجديد نفسها بنفسها ، وأنها تمتلك في داخلها ، من الأدوات والآليات ما يمكنها من تصويب مسارها ولجم تياراتها الأكثر انصياعا لسوق منفلت من عقاله ، وليبرالية اقتصادية لا حدود لها ولا ضوابط.
ولقد ظن كثيرون ، أن الأزمة ستعزز نفوذ اليسار بتنويعاته وتلاوينه المختلفة ، سواء في قلب العالم الرأسمالي أو على أطرافه ، استشهد بعضهم بموجة اليسار الزاحف في أمريكا اللاتينية ، ورأى آخرون أن الإسلام السياسي ، واستتباعا ، "الإسلام الاقتصادي" إن جاز التعبير ، هو الأكثر تأهيلا لوراثة الرأسمالية العالمية ، خصوصا في "جغرافيا" العالمين العربي والإسلامي.
لكنّ أيا من هذه النبوءات لم ير النور ، ولم يثبت جديته بصورة لا تقبل الدحض والإنكار ، فالرأسمالية في أزمتها الخانقة الأخيرة ، تعافت بسرعة قياسية ، لم تعرفها في أزمات ركود وكساد سابقة ، وهي أظهرت قدرة على التكيف مع الأزمات والتعامل معها أعلى مما ظننا وظن كثيرون ، والمعالجات التي اقترحت لتجاوز الأزمة ، أظهرت أنها جدية وذات جدوى ، برغم الخسائر الموجعة التي تعرضت لها الاقتصاديات الدولية ، وجعلت من "التريليون" رقما متكررا بكثرة في الملاحق الاقتصادية لأخبار الفضائيات والصحف والمجلات المتخصصة.
واللافت للأمر ، أن الانتخابات العامة التي أجريت في أوروبا عشية الأزمة وفي ذروتها وغداتها ، حملت مفاجآت من العيار من الثقيل ، إذ أظهرت تقدم اليمين والقوى الليبرالية وأنصار نظرية السوق ، على الأحزاب اليسارية والاشتراكية - الديمقراطية ، ففي ألمانيا - أكبر اقتصاد أوروبي - على سبيل المثال ، أصيب "الاشتراكي الديمقراطي" بأكبر هزيمة له منذ الحرب العالمية الثانية ، وفاز تحالف الديمقراطيين المسيحيين والليبراليين بأغلبية مريحة ، وسبقت إيطاليا ألمانيا في التوجه نحو اليمين بقيادة برلسكوني ، وقبلها كان اليمين الفرنسي يحتل ممثلا بساركوزي قصر الإليزيه ، ويجاهد جوردون براون اليوم للاحتفاظ بمكتبه حزب العمال في 10 داوننغ ستريت في مواجهة صعبة مع نجم المحافظين الصاعد ، وفي أطراف أوروبا أتت الانتخابات الأوروبية باليمين البرتغالي إلى سدة الحكم ، وجاءت انتخابات البرلمان الأوروبي قبل عدة أشهر كمؤشر حاسم على صعود اليمين في أغلب الدول الأوروبية.
صحيح أن الفواصل والتخوم بين يمين ويسار في أوروبا في طريقها للاضمحلال والامّحاء ، لكن الصحيح كذلك أن الرأسمالية بطبعتها الليبرالية الأكثر "تقديسا" لسلطة السوق وسطوته ، قد ارتبطت بأحزاب اليمين الليبرالية التي يتوالى فوزها في الانتخابات الأخيرة ، وهنا تكمن المفاجأة.
ومثلما كانت أحزاب اليسار والاشتراكيين الديمقراطيين تسجل تراجعا ملحوظا في انتخابات العامين الأخيرين في أوروبا ، كانت "الحركات الإسلامية" الأكثر ترويجا للنظرية الإسلامية في الاقتصاد ، تسجل تراجعا ملموسا في آخر انتخابات جرت في عدد من الدول والمجتمعات العربية والإسلامية ، كالمغرب وتركيا والكويت والعراق والأردن ، الأمر الذي يضيف للجدل حول مستقبل الرأسمالية ، جملة من الأسئلة والتساؤلات الجوهرية التي لا تصب في صالح نعيها ولا تستعجل إعلان وفاتها.