جدار برلين الفلسطيني

يوما بعد يوم تزداد القناعة لدى كل متابع أو قريب من فهم
المعادلة الفلسطينية أن جدارا سياسيا ونفسيا يكبر يوما بعد يوم
بين الضفة وغزة ليس فقط بين السلطتين بل حتى بين الواقعين، وأن
هنالك رضا من جهة وتجذيرا من جهة أخرى من كلا الطرفين للحالة
الحالية، وان هذا الجدار الذي يتم بناؤه داخل السلطة الفلسطينية
بشقيها سيتحول بعد كل جولة حوار أو محاولة تصالح إلى جدار فصل
غبي وغير وطني بين الضفة وغزة بكل تفاصيلهما.
عندما تم هدم وإزالة جدار برلين قبل عشرين عاما فرح العالم لأنه
عبر عن وحدة وعن زوال الانقسام الألماني، وكان الهدم معيارا على
الحرية، لكن الجدار الفلسطيني الذي يتم بناؤه بكل اجتهاد خلال
السنوات الأخيرة يخالف كل المعايير الوطنية لأن كل الأراضي
الفلسطينية ما زالت تحت الاحتلال، ولأنه لا يجوز تحت أي سبب أن
يتم تشويه البوصلة الفلسطينية نحو الاقتتال الداخلي، وصرف النظر
عمليا عن مواجهة الاحتلال سواء مواجهة عسكرية أم سياسية.
اخطر ما تحمله كل محاولات المصالحة التي عملت عليها دول عديدة
وآخرها الجهد الكبير للقيادة المصرية أن هناك طرفا فلسطينيا او
أكثر يعتقد أن مصلحته في استمرار الانشقاق والانقسام، ويمارس كل
ما يستطيع من عبث سياسي وتذاكٍ بدائي في تضييع الوقت لأنه يرى أن
الوحدة الفلسطينية ليست مصلحة تنظيمية او فصائلية، حتى وإن كانت
تخدم الاحتلال الصهيوني وتقدم له ولكل أعداء الشعب الفلسطيني،
فأي خطر اكثر من تقدم المصلحة الفصائلية او الرغبة الخاصة بأشخاص
بامتلاك مزيد من النفوذ وشكليات الزعامة على مصلحة القضية الكبرى
للأمة!!
جدار برلين الفلسطيني سيكون بين جزء من الأمة والقضية الفلسطينية
لأنه عندما تصبح أولوية الفصيل هي الأولى والمقدمة على المصلحة
العليا فإنه من الطبيعي أن تتراجع القضية الفلسطينية حتى لدى
الشعوب لتكون ثانيا وثالثا وعاشرا، وسيقول هؤلاء إن أهل القضية
يقدمون فصائلهم على مصلحة الشعب الفلسطيني ويتقاتلون على السلطة
الناقصة ويقدمون لعدوهم خدمة لم يحلم بها، فكيف تكون القضية لدى
الآخر أولوية وأهلها يبحثون عن زعامة وحكومات شكلية ويحلم بعضهم
باستقبال في لندن او فتح حوار مع واشنطن اكثر من حلمه بإلحاق أذى
بالعدو أو إعادة اللحمة لشعبه المقسم بين قطعتين من الارض
إحداهما محاصرة والأخرى محتلة؟
جدار برلين الفلسطيني سيكون بين مسار هذه الفصائل ومكانتها عربيا
وإسلاميا، فكيف سيطالب أي من الطرفين بموقف عربي موحد وقادة
الحكومتين يكرسان انقساما بل حربا داخلية تصل إلى حد الاجتثاث
السياسي، وكيف سنتحدث عن مكانة القضية قضية للأمة وقادة الفصائل
لا يقدمون نموذجا صغيرا في أن تكون المصلحة العليا لفلسطين اهم
من مصالح الفصائل والأشخاص من محدثي الزعامة واأطال الكاميرات
والفضائيات، وبعضهم لم يحمل حتى بندقية صيد ضد الاحتلال!
جدار برلين الفلسطيني بين من يجذرون الشقاق وبين شعبهم الذي دفع
ثمن تفرق الأمة، ليجد اليوم انه يدفع ثمن تفرق السلطة الوهمية
وليجد أن نقده لوجود عشرين دولة عربية أمر لا يقارن بوجود
حكومتين وشعبين وقريبا رئيسين في ارضه حتى تحت الاحتلال، وإذا
كانت الدول العربية معقولة فإن النموذج الفلسطيني تجاوز فكرة
الانقسام إلى العداء حتى قبل التحرير، وهذا الجدار هو بين فتح
ونجاح نهج التفاوض وبين حماس وعودة نهج المقاومة الذي يختفي يوما
بعد يوم، أما المحتل فمن حقه أن يغفل ما يريد لأن الأشقاء صنعوا
جدارا يفصلهم عن مقارعته، وجدارا يمنعهم حتى من اللقاء الشكلي
إذا ما اصبح الانقسام هو الحقيقة فإن هذه كارثة ستترك آثارا لا
تقل عن وعد بلفور ونكبة 48 ونكسة 67 وكل محطات الهزيمة، وسيكون
أي طرف يجذر انقسام الأرض والشعب خادما أمينا للمحتل بصرف النظر
عن النوايا والتبريرات.