من أين يأتي وزير خارجية فلسطين بكل هذا «الرضا»؟

ثمة إجماع بين المراقبين والسياسيين على أن واشنطن استدارت استدارة كاملة في موقفها حيال الاستيطان ، أقله في عهد أوباما الذي بدأ بالدعوة لتجميد الاستيطان بكل أشكاله وأماكنه ، لينتهي بالدعوة لمفاوضات بلا شروط ، أي بلا تجميد للاستيطان ، خصوصا في القدس التي أخرجت من التداول ، باعتبارها وفقا لنتنياهو "ليست مستوطنة ، بل العاصمة الأبدية الموحدة لدولة إسرائيل اليهودية".
وحده وزير خارجية فلسطين ، يشذ عن هذا الإجماع ، ويشعر بالرضا عن "التوضيحات" التي أدلت بها الوزيرة هيلاري كلينتون في المغرب ، بعد الصفعة التي وجهتها من أبو ظبي والقدس للعرب والفلسطينيين ، مع أن المدقق في "التصريحات المغربية" للوزيرة الأمريكية ، لا يرى فيها جديدا عن تصريحاتها المقدسية أو الظبيانية ، فهي ما زالت ترى أن ما فعله نتنياهو غير مسبوق ، وأنه كاف لاستئناف المفاوضات ، حتى وإن لم يكن بمستوى ما أرادته واشنطن وتطلعت إليه ، أما قولها بأن الاستيطان غير شرعي ، فهذا من باب تحصيل الحاصل ، وتكرار لموقف أمريكي لفظي متواتر ، لم يجلب نفعا ولم يدرأ ضرا ، لسبب بسيط أنه لم يترجم إلى أفعال ضاغطة على حكومات إسرائيل المتعاقبة ، ولم يُستتبع بأية خطوة عقابية من أي نوع.
لم يكن الخلاف مع السيدة كلينتون (خلاف الرئيس عباس المفروض أنه مرجعية رياض المالكي) منصبا على "شرعية الاستيطان من عدمه" ، كما لم يكن الرئيس الفلسطيني مشتبكا في درس عن تاريخ المفاوضات مع رئيسة الدبلوماسية الأمريكية ، لتقنعه بأن المفاوضات سبق لها وأن التأمت من دون وقف الاستيطان ، فهذا أيضا معروف ومن باب تحصيل الحاصل ، الخلاف انحصر في نقطة واحدة فقط: هل تلتئم مائدة المفاوضات من دون تجميد كامل للأنشطة الاستيطانية ، وفي كل المناطق الفلسطينية المحتلة عام 1967 بما فيها القدس الشريف ، أم لا ؟ عباس قال لا لاستئناف المفاوضات من دون تجميد كامل للاستيطان ، وخرج من اجتماعاته مع كلينتون بتصريح قال فيه انها لم تأت بجديد ، ثم جاء جورج ميتشيل إلى عمان للقائه واحتواء غضبه وغضبة بعض العواصم العربية ، فيما كانت كلينتون تلقي على مسامع نظرائها من المعتدلين العرب بشروحات مطولة عن مواقفها الجديدة ، مصحوبة بضحكات مزلزلة ، ترفع معدل الضغط ونسبة سكر الدم في العروق والأوصال المتيسبة للجسد الفلسطيني المثخن بالخيبات والإحباطات ، بيد أن السيدة كلينتون لم تنطق بكلمة السر السحرية أبدا ، ولم تقل أنه يتعين تجميد الأنشطة الاستيطانية بالكامل قبل أن تُستأنف المفاوضات ، فمن أين جاء السيد المالكي بكل هذا الرضا ، ومن أعطاه الإذن بـ"تنفيس" الموقف الفلسطيني الرسمي وإفقاده صديقته سريعا.
يقول المالكي أن موقف واشنطن عاد إلى طبيعته ، ولا ندري ما إذا كان هذا الأمر مرضيا للرئاسة الفلسطينية التي ينطق المالكي باسمها أم لا ، وهل نضرب صفحا عمّا قيل أنه تراجع دراماتيكي في الموقف الأمريكي ، فإن كان الأمر كذلك ، فلماذا صعدنا أو بالأحرى "أصعدتمونا" إلى قمة الشجرة العالية ، ألم يكن حري بنا أن لا نتحدث بلغة "الشروط المسبقة" إن لم نستطع حفظها والوقوف عندها.. هل يعني ذلك قبولنا برواية نتنياهو عن القدس ، وتمييزه الاستيطان فيها عن الاستيطان في الضفة ، أليس في استئنافنا التفاوض مع نتنياهو إقرار بإمكانية الجمع بين السلام ومفاوضاته من جهة ، وسياسة الإملاءات ومخرجاتها الاستيطانية التوسعية من جهة ثانية؟.
نعرف أن الوزير المالكي باح وفاض بما حرص نظراؤه من وزراء الخارجية العرب على كتمانه ، وهذا لا يبرر له "صمته دهرا ونطقه كفرا".. لكن الوزيرة الأمريكية بدورها ، باحت بما لم يقله حتى الوزير المالكي ، فهي كشفت أن زملاءها لم يعترضوا على مقاربتها وشروحاتها ، وأنهم اكتفوا بتوجيه الاسئلة والاستيضاحات لا اكثر ولا أقل.
يقول البعض من الفلسطينيين المهرولين الذين يريدون استمرار المفاوضات بأي ثمن وتحت أي ظرف: أن المستوطنات هي من قضايا الوضع النهائي ، وأن البحث بها مؤجل إلى حين التئام مائدة المفاوضات ، وأن الفلسطينيين يستيطعون قول ما يشاؤون على هذه المائدة وليس قبلها أو خارجها ، فلماذا نفعل كل هذه "الجلبة" الآن ، ولماذا نقامر بغضب واشنطن علينا؟ والحقيقة أن ما تم إرجاؤه لمفاوضات الوضع النهائي ، هو الحسم بمصير المستوطنات القائمة آنذاك ، وهذا لا يعني بحال القبول بمزيد من التوسع الاستيطاني تحت أي ظرف من الظروف ، ثم إذا كان هناك تقصير من القيادة الفلسطينية في التصدي للزحف الاستيطاني الذي صاحب المفاوضات ورافقها ، فهل ينبغي أن يكون التقصير السابق مبررا لتقصير لاحق ، ألا يكفي أن الاستيطان قد تضاعف ثلاث مرات منذ أوسلو حتى اليوم ، ودائما تحت مظلة المفاوضات ، ليكون ذلك سببا كافيا لوقفة تفكير وتأمل ومراجعة ، ولوضع الاستيطان من جديد على رأس أجندة العمل الوطني الفلسطيني المفاوض والمقاوم على حد سواء.