نهب قارة على مدى خمسة قرون

ربما تذكرون الصورة الصحفية المثيرة التي بثتها وكالات الانباء يوم انعقاد مؤتمر الدول الاميركية قبل شهور ويبدو فيها الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز يهدي الرئيس الاميركي باراك أوباما كتابا بعنوان Open Veins of Latin America أي الاوردة المفتوحة لأميركا اللاتينية..
لا أدري إذا كان الرئيس أوباما قد قرأ الكتاب وربما قبل ذلك فهو مثقف واسع الاطلاع لا كسلفه! ولا أدري إذا كان قد قرأه أي من قادة الدول الاوروبية كاسبانيا والبرتغال وبريطانيا وفرنسا التي ولغت في دماء تلك القارة المنكوبة على مدى خمسة قرون كاملة قبل أن ترثها الولايات المتحدة.. لكنه - في رأيي - كاف لاقناع أي إنسان بمدى الظلم الفظيع الذي اوقعته بها تلك الدول الاستعمارية.. والكتاب من تأليف الصحفي الاوروغوي الشجاع إدواردو غاليانو وقد صدرت طبعته الأولى عام 1970 ''ليتحدث ببساطة مع الناس ككاتب غير متخصص يروي لجمهور غير متخصص أيضا حقائق معينة يخفيها أو يزورها التاريخ الرسمي ، الذي يرويه عادة المحتلون!'' أما طبعته الخاصة احتفالا بمرور 25 عاما على طبعته الأولى فقد كتبت مقدمته أليزابيث أليندي الروائية التشيلية المعروفة الحائزة على عدة جوائز عالمية ، ووصفت انطباعاتها ومشاعرها حين قرأت الكتاب أول مرة عام 1970 ''... كنا في خضم قيام الحكومة الاشتراكية لسلفادور أليندي وهو أول ماركسي في التاريخ يصبح رئيسا بواسطة انتخابات ديمقراطية، وكان الرجل صاحب حلم بالمساواة والحرية.. وذلك الكتاب ذو الغلاف الأصفر هو الذي اثبت لنا أننا في هذه القارة نشترك في تاريخ امتد خمسمائة عام من الاستغلال والاستعمار، كلنا معلقون بقدر واحد وننتمي الى سلالة واحدة من المظلومين المضطهدين.. لو كنت اعرف يومها كيف أقرأ ما بين السطور لاستنتجت بأن مصير حكومة سالفادور اليندي مقرر سلفا.. كانت فترة الحرب الباردة حيث الولايات المتحدة لا تسمح لتجربة يسارية أخرى أن تنجح في ساحتها الخلفية كما سماها هنري كيسنجر فقد كفاها قيام الثورة الكوبية ولا يمكن تحمل مشروع اشتراكي آخر حتى لو جاء نتيجة انتخابات حرة، لذلك.. حدث (!) في 11 أيلول 1973 انقلاب عسكري أنهى تقليدا ديمقراطيا استمر قرنا كاملا في تشيلي، وبدأ حكم ديكتاتوري طويل للجنرال أوغستو بينوشيه، وتتابعت انقلابات مشابهة في الدول الاخرى، وتحول نصف سكان القارة الى العيش في رعب.. تلك استراتيجية رسمت في واشنطن وفرضت على شعب اميركا اللاتينية بواسطة قوى اليمين الاقتصادية والسياسية وفي كل مرة كان العسكر يعملون كمرتزقة لحساب تلك القوى حيث جرى تنظيم القمع ونشره على نطاق واسع، تعذيبا ومعسكرات اعتقال، ورقابة وسجنا بلا محاكمات، وإعدامات على عجل فاختفى الى الأبد آلاف من الناس ، وخرجت اعداد كبيرة من البلاد الى المنافي أو فروا لاجئين لينجوا بحياتهم.. وهكذا أضيفت جروح عميقة جديدة لتلك القديمة التي خلفت ندوبها في جسد القارة واهلها وفي هذا الجو السياسي المكفهر ظهر كتاب / الاوردة المفتوحة لأميركا اللاتينية / في اوروغواي حيث لم يلبث أن قام انقلاب عسكري عام 1973 اعتقل مؤلفه ادواردو غاليانو الذي تمكن من الفرار الى المنفى في الارجنتين لكن انقلابا قام في هذه الاخيرة عام 1976 اعتقل فيه المثقفون والصحفيون واليساريون والفنانون فاضطر للهرب الى منفاه الجديد في اسبانيا!..''.
وبعد.. فهذا كتاب يروي بالوقائع والارقام وبالتفاصيل التاريخية الموثقة الدامغة كيف استباحت الدول الاستعمارية اميركا اللاتينية منذ اكتشافها (!) عام 1492 فنهبت ثرواتها وخيراتها الطبيعية الهائلة في باطن الارض وعلى سطحها ودمرت من أجل ذلك حياة الملايين من أبنائها، ولعله - اي الكتاب - يعلم الذين لم يتعلموا بعد من ساستنا وخبرائنا (!) الاقتصاديين الدروس والعبر المستفادة في فهم حقيقة تلك الدول وشركاتها (المتعددة الجنسيات حاليا) التي لا تستهدف - كما يتوهم البعض - منطقة معينة أو قومية بذاتها أو دينا دون سواه، فكل ما تبغيه هو الربح الذي يحركه جشع لا حدود له ولا ضوابط أخلاقية تردعه، ولعل ما يخفف وجع قارئ الكتاب أن يرى بشائر الأمل وقد بدأت في السنوات الآخيرة تشرق على بعض دول أميركا اللاتينية وهي تخرج عن الطوق واحدة تلو أخرى.
ولعلنا أخيرا نتذكر - ونحن نجتر احزاننا - كم عانى الآخرون!