احتفال بريطانيا بمئوية بلفور

قبل ان يقع الهجوم الارهابي المدان في لندن، تواترت انباء مفادها ان الحكومة البريطانية تتهيأ منذ الآن لإقامة حفل تحيي فيه الذكرى المئوية الاولى لصدور وعد بلفور، ذلك الوعد الذي يستحق بجدارة وصفه بالوعد المشؤوم، حيث تعهدت رئيسة الوزراء تيريزا ماي بإحياء هذه المناسبة، المثيرة للمشاعر الغافية في الذاكرة، خلال وقت لاحق من العام الحالي، وقالت سلفاً ان حكومتها ستحتفل بهذا الوعد "بكل فخر" كونه كان "اكثر الرسائل اهمية في التاريخ".
إذ في الوقت الذي يطالب فيه ضحايا هذا الوعد الغادر، الحكومة البريطانية بالاعتذار عن هذا الخطأ التاريخي الفظيع، ويدعون فيه الى الاعتراف بدولة فلسطينية كتعويض رمزي عما لحق بهم من تقتيل وتهجير وافقار وعذابات، تمضي حكومة السيدة تيريزا ماي عكس اتجاه عقارب الساعة، لتحتفل "بكل فخر" بالخطيئة الكبرى، في موقف يشي بالسادية، وينم عن روح التعالي الاستعماري ازاء الحقائق الكارثية التي انتجها هذا الوعد، وما يزال يعيد انتاجها حتى اليوم.
ولا ندري ما الذي يدعو حكومة المملكة المتحدة، للفخر بوعد من أعطى شيكاً ليس محرراً باسمه، وليس له اصلاً، مقابل بضاعة ثمينة تم تسليمها للغير، فيما النتائج السياسية والاخلاقية والانسانية لتلك الفعلة الاستعمارية الشنيعة ماثلة للعيان، او قل للعين التي لا تود ان ترى مضاعفات تلك الجريمة المؤسسة لكل هذا الاضطراب في الشرق الاوسط، ولكل هذه الحروب المتناسلة من بعضها بعضا على مدى 100 سنة، والحبل ما يزال على الجرّار.
ذلك ان ما فعلته حكومة الانتداب البريطاني في فلسطين العام 1917، سابقة لم يحدث مثيل لها في تاريخ الاستعمار الاوروبي على الاطلاق، اي ان يمنح من لا يملك ارضاً لمن لا يستحقها، واكثر من ذلك فقد أتى هذا الوعد، الذي يجب ان يثير الخزي لدى اصحابه، في وقت كان فيه العرب يحاربون الى جانب بريطانيا ضد الدولة العثمانية، الامر الذي يضفي على وعد بلفور صفة اضافية شائنة، وهي انه كان وعداً غادراً لحليف دخل في روعه ان بريطانيا حليفة كبرى للعرب، وصديقة يمكن الاعتماد عليها.
من المستغرب حقاً، انه طوال هذه العقود المريرة، منذ صدور الوعد الغادر المشؤوم، لم تحدث مراجعة سياسية او فكرية رصينة على المستوى الرسمي في البلاد التي لم تكن تغيب عن مملكتها الشمس، وبالكاد ايضاً يمكن العثور على مؤرخين او مفكرين او ساسة متقاعدين بريطانيين، الا من رحم ربي، يشعرون في قرارة أنفسهم بضرورة تصحيح الخطأ على نحو ما، او بنوبة تأنيب ضمير على ما فعلته بلادهم من آثام، وما ارتكبته من فظائع بحق شعب عربي صغير وفقير، عندما كانت بريطانيا في اوج قوتها وعظمتها الامبراطورية.
وبعيداً عن المشاعر التي يصعب التخلص منها في واقع الامر، والمرء يخوض في المياه الآسنة لهذا الوعد اللئيم، ان يستذكر امراً طيباً، مهما كان صغيراً، حققته بريطانيا لنفسها جراء هذا الوعد الذي ستحتفل به "بكل فخر"، لا سيما وانها خرجت من فلسطين بعد الحرب العالمية الثانية وهي تجر ذيلها الطويل بين ساقيها، حتى ان الطرف الذي تم منحه الوعد دون مقابل، ظل يطلق على جنودها النار حتى لحظة انسحابهم الاخير، في مشهد ينبغي على حكومة السيدة تيريزا ماي ان تشعر فيه بالخزي، لا بالفخر الذي لا مسوّغ له.
وهكذا فإن حكومة بريطانيا التي ستنكأ جرحاً لم يندمل بعد، حين تحتفل اواخر هذا العام بمئوية وعد بلفور، الذي لم تُشكر عليه من احد، تبدو كمن يعاند الحقائق الدامغة، ويمعن بالخطأ اكثر فاكثر، ويصر عليه دون اي اعتبار لمشاعر الضحية، التي تلقت – جراء هذا الوعد- عقاباً قاسياً بلا ذنب، وأتت فعلة لا يمكن تبريرها بأي حال من الاحوال، الامر الذي يدعونا الى رفع الصوت عالياً ضد كل هذا الظلم المزدوج، من جانب بلد تربطه بالعرب علاقات سياسية واقتصادية وثقافية لا حصر لها، لعل حكومة السيدة ماي ترى بعينها الاخرى، فداحة ما ستطلقه من غضب وردود افعال محتملة، بإقامة هكذا احتفال، تبدو فيه كمن يرش الملح على جرح نازف عميق.
الغد 2017-03-24