لوبان وماكرون والجمهورية السادسة

تم نشره الخميس 27 نيسان / أبريل 2017 01:04 صباحاً
لوبان وماكرون والجمهورية السادسة
حازم عياد

خاضت القارة الاوروبية العديد من الاختبارات في العامين الماضيين، كاشفة عن حجم التغير الثقافي والاجتماعي، المرتبط بشكل وثيق بمتغيرات ديموغرافية واقتصادية وجيوسياسية امتدت من اوكرانيا الى اسكتلندا؛، وقفت فيها بريطانيا في موقع الصدارة خلال الاشهر القليلة الماضية؛ اذ جاء التصويت بنعم للخروج من الاتحاد الاوروبي كعاصفة اكدت حقيقة الازمة التي تعيشها القارة الاوروبية العجوز.
 أزمة فاقمتها الهجرة غير الشرعية التي تسببت في تعطيل العمل باتفاقية شنغن للتنقل بين دول الاتحاد الاوروبي اكثر من مرة، مشعلة الخلافات بين دول الاتحاد الاوروبي حول كيفية التعامل مع المهاجرين الجدد، المتكدسين في مخيمات حدودية بين دول القارة، لترتفع الجدارن في صربيا، وعدد من الدول الاوروبية المرتابة في سياسات الاتحاد الاوروبي، منعشة آمال اليمن الاوروبي الذي حقق نجاحا غير مسبوق في انتخابات البرلمان الاوروبي على غير العادة.
 التغيرات الديموغرافية والمترافقة مع صعوبات اقتصادية في اعقاب الازمة الاقتصادية شكلت واقعا جديدا، دفع العديد من الدول الاوروبية الى الذهاب نحو استفتاءات دستورية كإيطاليا وسويسرا، واخرى نحو استفتاءات للانفصال كاسكتلندا، محفزة اقليم كتالونيا الاسباني إلى تصعيد مطالبه بالانفصال، واستفتاء مواطنيه على ذلك.
 العاصفة لم تتوقف؛ إذ انتقلت الى هولندا وبلجيكا والنمسا واليونان، واخيرا فرنسا وعبر عنها غير مرة من خلال صناديق الاقتراع، لتكشف عن خارطة سياسية مضطربة تجاوزت اليسار، واليمين التقليدي، نحو يسار متطرف في اليونان، ويمين انعزالي في اوروبا، وبينهما ظهر تيار ثالث يبحث عن مكان له في وسط هذا الصخب الكبير عبر عنه ايمانويل ماكرون في فرنسا بشكل واضح، خصوصا في الجولة الاولى لانتخابات الرئاسة الفرنسية.
 ماكرون رغم انتمائه التقليدي لليسار، وارتباطه بالحزب الاشتراكي الحاكم ممثلا بالرئيس الفرنسي اولاند، إلا أنه عاد وشكل تيارًا جديدًا اطلق عليه حركة الى الامام، والتي تمثل تيارا ثالثا يصعب تحديد مقولاته بدقة، جامعًا بين مقولات اليسار واليمين، ومتفاعلا مع الواقع الديموغرافي المتشكل، الممثل بالمسلمين الذين قارب تعدادهم في فرنسا عشرة ملايين نسمة؛ ليشكل خليطا غريبا يجمع بين القوى الاقتصادية الحديثة على رأسها شركات الاتصال ورؤوس الاموال، وقوى اجتماعية صاعدة كالمسلمين، وانصار الليبرالية الجديدة، واليسار الاجتماعي.
 ماكرون على خلاف أقرانه ومنافسيه في الانتخابات الذين حاولوا الاستثمار في الهجمات الارهابية، وصعدوا من خطابهم في الدفاع عن القيم التقليدية للدولة الفرنسية، وعلمانيتها اللائكية الإقصائية، عاكَسَ التيار، وبذل جهودًا حثيثة لاسترضاء الاقلية المسلمة في فرنسا، واستمالتها بطريقة جديدة غير معهودة، بلغت حد تعبيره عن الاسف والادانة للمجازر التي ارتكبتها فرنسا في الجزائر في أثناء الحقبة الاستعمارية؛ ما دفع الكثيرين إلى انتقاده، والقول إن نصف الاموال المستخدمة في حملته مصدرها الجزائر؛ فالرجل حطم كل القيود بمغازلة المغاربة والتوانسة، وتقديم وعود لتونس بتحويل ديونها الى استثمارات، مستميلًا بذلك شريحة واسعة من مواطنيه العرب مغاربة وتوانسة وجزائريين.
 ماكرون دعا في خطاباته الى اعادة النظر في العلمانية الفرنسية الإقصائية، داعيا على خلاف منافسيه الجمهوريين والاشتراكيين بل المتطرفين الى تخفيف القيود التي تفرضها العلمانية الفرنسية المعروفة باسم «اللائكية»، داعيا الى الاعتراف بحرية العبادة، وما يتوافق معها من مظاهر ثقافية، تشمل اللباس، وانماط الحياة اليومية التي تعبر عن هُوية مستقلة داخل المجتمع الفرنسي.
 مخالفًا منافسيه، وخارجا عن مألوف الحملات الانتخابية التي قادتها مارين لوبان من الجبهة الوطنية الفرنسية ومنافسيها في يمين الوسط واقطاب اليسار الذين انصب تركيزهم على استرضاء اليمين المتطرف دون جدوى؛ أمر يفسر وجود مسلمين ويهود داعمين حملته، الى جانب تحالفة التقليدي مع كبار رجال الاعمال، كما اوضحت التقارير التي نشرت مؤخرا حول مصادر تمويل حملته والتي تجاوزت 8 ملايين يورو.
 فرنسا تتغير سياسيا عاكسة التغيير الديموغرافي والثقافي والاقتصادي؛ فماكرون على خلاف القوى السياسية الحزبية اكثر تماهيا مع مفاهيم العولمة من نظرائه الفرنسيين في اليمين واليسار؛ ما جعله اقرب الى الليبرالية الجديدة، وابعد ما يكون عن اليسار والجمهوريين اصحاب الإرث الديغولي، فهل الحقائق التي كشفها ماكرون ستدفع الفرنسين للبحث عن الجمهورية السادسة؟
 وهل سيقود ماكرون فرنسا نحو استفتاء جديد في القارة الاوروبية، يحسم هذا الاستقطاب بين اليمين واليسار المتطرف، واضعا حدًا للعلمانية اللائكية المتطرفة، ذات النزعة الاقصائية ثقافيا وسياسيا في فرنسا؟
 وهل سنشهد استفتاءً جديدا في القارة الاوروبية حول مستقبل النظام السياسي الفرنسي، في ظل التغيرات الديموغرفية والثقافية والسياسية والاقتصادية تواكب هذه الحقائق المتغيرة؟
 النظام السياسي بدا بالياً مهترئًا، ومتحجرا لا يستجيب للمتغيرات الديموغرافية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والجيوسياسية في فرنسا والقارة الاوروبية، وهو ما اعترف به جاك شيراك صاحب شعار فرنسا الجديدة فرنسا للجميع؛ فشيراك فشل في صياغة سياسة اندماج تقليدية، وفشل في تجديد الجمهورية الخامسة، والحفاظ عليها؛ امر قاد البلاد الى مزيد من الاستقطاب والتشرذم.
 لن تنتهي المعركة الانتخابية في فرنسا بفوز ماكرون او خسارته، بل ستكون بداية لعاصفة من التغيرات على الارجح في الساحة الفرنسية، إما ان تدفع نحو المزيد من الانفتاح والاعتراف بالتغيرات، او ان تدفع نحو مزيد من الانغلاق الذي لن يصمد طويلا امام المتغيرات الكبرى الديموغرافية والسياسية التي تعيشها فرنسا؛ ففرنسا على موعد مع الجمهورية السادسة طال الزمن ام قصر.

السبيل 2017-04-27



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات