(خُش ) في الموضوع

لا أدري ما الأسباب الجوهرية التي تجعل المتحدث باللغة العربية يميل إلى الإطناب ،والتوسع الممل حينا،على حساب الفكرة الأساس ، والمعنى المباشر غير المتشعب ؟
وانسجاما مع عنوان المقال ، (سأخش) في الموضوع دون مقدمات،للحديث عن هذه العبارة التي نرددها حين يأخذنا محدثنا إلى موضوعات شتى ،لا علاقة لها بما يتحدث عنه ،فتتراكم حول النواة المركزية مئات الأغطية ، والأكمام والأردان ، ما يجعلك تنسى أخيرا الفكرة التي يدور حولها الحديث المطروح
ولقد صرت أكثر قناعة من ذي قبل بأننا – معاشر العرب ـــ أمة حكّاءة رغّاءة ،لا نستطيع إيصال أفكارنا دون لف أو دوران ،وابتلينا بمرض (الإسهاب والإطناب )، وكأن لغتنا عاجزة عن أن تساعدنا على إيصال المعاني والأفكار من أقصر الطرق ،و بلا مقدمات طويلة ، أو جمل متراكمة تفتك بالمعنى ، مع أن القرآن الكريم ، والحديث الشريف ،وأقوال البلغاء وصلت إلى أعلى درجات الإيجاز والكمال والإقناع ،وشمولية المعاني المتعددة بألفاظ معدودات.
ومن صور هذا المرض الفكري واللغوي ،ما نتابعه على الفضائيات في البرامج الحوارية ،حين ترى المُحاور( بفتح الواو) يحتاج إلى وقت أطول مما ينبغي ،لتوضيح أو شرح فكرة ما ، وخصوصا في حالة الاتصال الهاتفي ، لأخذ رأيه في قضية مبسوطة للنقاش ، الذي غالبا ما ينتهي وقته المحجوز له على القمر الصناعي ،وهو ما زال يتلمظ بشدقيه ،ويمهد لموضوعه بمطولات استفتاحية يضطر المذيع معها أن يقول له يا أخي ( خش ) بالموضوع ، وأستطردُ هنا بالعدوى ، لأقول، بمناسبة الحديث عن اتصالات الجمهور الهاتفية بوسائل الإعلام : إننا الأمة الوحيدة من بين الأمم ،التي يجب على المذيع أن ينبهها في كل اتصال هاتفي ، ويرجوها أن تستمع من الهاتف ،لا من التلفاز بسبب التشويش الناتج ، ليبادر المتصل بعدها بالقول :( يا ولد ، تعال وطي ها التلفزيون !)
كما نجد تفشي هذا المرض في أوراق الباحثين ،ورسائل طلبة الدراسات العليا ،والمحاضرين التي لو بسطنا أوراق مقدماتهم ومداخلهم وعتباتهم النصية لفرشت كامل مساحات جامعاتهم ، والرجوع بنا في كل دراسة إلى جذور المسألة الأولى ،بغض النظر عن كل الدراسات السابقة في الموضوع ذاته ، وهذا ما يفسر لنا سبب تورم بعضها وسمنتها ، التي ليست مظهر صحة وعافية ، بقدر ما هي سرطانات تفتك بأعضائها وأحشائها ، حتى باتت ظاهرة زيادة عدد الصفحات ،والإطالة عند معظم الدارسين سمة لازمة ،ومطلبا ضروريا ،وقناعة راسخة . على خلاف الدراسات الأجنبية التي قد لا تتجاوز بضع وريقات حجما ، ولكنها تشتمل بين طياتها على كل مظاهر الأصالة والابتكار .ولكم أن تقارنوا بين منهجين في التعامل مع البحث العلمي ؛ منهجنا الذي يميل إلى الإطناب والشرح والتعليل والاستفاضة والتمهيدات والتهليلات والتحميدات والتفصيلات غير الضرورية ، والمنهج الغربي الذي يوجز فيه المتحدث ما يريد قوله في بضع جمل ، كما يمكنكم تتبع خطابات بعض الزعماء العرب الفضفاضة المملوءة صراخا وزعيقا ،وأن تقارنوها بخطابات رؤساء الدول الغربية التي لا تتجاوز بضع دقائق ،يتركز الجهد المبذول فيها على توصيل الفكرة ،لا استعراض العضلات اللغوية والقدرة الإنشائية .
والأمر نفسه نسمعه من خطباء الجمعة في محاولاتهم أن يقدموا كل قضايا الدين في ربع ساعة بدل أن يركزوا خطبهم حول مسألة واحدة ، ومحاولة تعميق الفكرة ،واستحضار ما يناسبها من أدلة ،مبتعدين عن تعرجات الموضوعات .
الإيجاز والتلخيص من الفنون المهارية التي تحتاج إلى دربة مستمرة ، ونحن في أمسّ الحاجة إلى إتقانهما ؛ لأنهما يوفران الوقت والجهد ، ويعمقان الأفكار ، ويطردان الملل ، وينسجمان مع طبيعة عصرنا ، وظروف العمل ، كما أنهما أكثر إنتاجية معرفية .
إن زمن المقدمات الطلليّة ،والمهلهل الذي هلهل القصيد ،والانتقال من موضوع إلى موضوع ،كما القصائد الكلاسيكية، وحوليات زهير ، والقصائد الطوال التي قطعت أنفاس شعرائها ، والنسج على غرار ألف ليلة وليلة ــ قد ولّى مع طبيعة هذا العصر ، عصر القصيدة البرقية ، والمقطوعة الخاطفة ، والرسالة الخلوية ، والخطبة الفاكس، واللمعة السريعة ، لذلك لا تغضبوا حين يصرخ في وجوهكم كلما حاولتم الاستفاضة اللغوية كتابة ومحادثة قائلا : اختصر ، أو ( خش في الموضوع ،أو هات من الآخر ) .