يا خير بلد

لن تجد وان بحثت في النسب ، خير بيت من خير بيت تسامى في العرب ، فهم العترة الأطهار ، والسادة الأبرار ، والصفوة المختارة ، والدماء الزكية التي شفت فترقت فصنعت الخير والمجد ، وأنارت طريق المظلومين في ساحات الحياة.
هم السادات ، والنطف الشريفة ، أصحاب المكانة ، والمهابة ، حملة الرسالة ، والآيات ، يرتقون إلى السماحة فوق الرضى ، فصدورهم بيضاء مثل عبير قلوبهم ، وأشرق النور من صدورهم ، ومن ظهورهم ، وقبورهم ، ومضوا منارات على أبواب الحائرين.
جللتهم الوقائع فجلوا بها ، وتجلوا ، وقادوا أحداث التاريخ ، أوائل مارسوا الخير في حياة أمتهم منذ النبأ العظيم ، وما وسعتهم صفحات العز والشرف فزادوا فوق عزهم فخارا ، وظلوا في الدنيا أسيادا وأيادي بيضاء فلهم آيات في آيات الله لا تجارى.
هاشميون آمنون ، يأمنهم الناس ، انقياء أصفياء من خلص الأمة ، وأيدْ تقدم الخير وتنير الطريق ، وهم أول الخير ، ومهبط الروح ، ومبعث العزة.
فليست لحظات اعز على الأردنيين من أن ارتبط مصير الأردن بالعترة الطاهرة من ملوك بني هاشم حتى غدا البلد الطيب بلد الأحرار ، والملتفين حول العرش ، ومن ضاقت بهم السبل ، فصنعوا حكاية الأردن الحديث ، فكانت نهضة ، وكان استقرار ، وكانت مؤسسات تحفظ الدماء ، والأعراض ، والأرزاق ، وكانت حكومات ، ومعارضة ، وانتخابات يوم عمت الدكتاتورية وجه العالم العربي.
والقائد الهاشمي لا يكف عن البناء ، والعطاء رغم فقر الثرى ، تحوطه قلوب الملايين من شعبه الأوفياء ، وتحفظه العيون ، والقلوب ، وقد خفض جناحه لأهله الطيبين ، وفرش لهم القلب والدرب. وكلنا حول الملك ، وان اختلفت الآراء ، والأفكار ، ونحن "فدى " القائد ، لا نخذله طرفة عين ، نبني ، ونعلي بنيان الأردن الحديث ، وقد دفع ثمنه من رصيد الأرواح الأردنية ، وفلذات الأكباد ، والهمم الكبار التي تتجاوز الحسابات الصغيرة ، و "شخصنة " المواقف في بلد عزيز يرقى فوق الحسابات ، والترهات ، والمساومات ، والمراهنات الخائبة.
وفي الأردن نختلف على كل شيء سوى الملك ، وفي المحن لا نقف إلا في خندق الوطن ، وليس فينا من يطعن في الخاصرة ، وان اختلفنا فهي مواقف إزاء الحكومات المتغيرة غير أن لا خيار سوى الحفاظ على امن المملكة ، ولا غير الأردن وطناً ، أرضا من ذهب ، وان ضاقت الأيدي فما ضاقت النفوس ، وقد نختلف ما دام الاختلاف خيراً للناس ، وطلباً للحقوق.
نختلف لنبني ، ونلوذ في الشدائد إلى الحضن الأردني المنيع ، ولا نجري خلف السراب والكذبات الكبار.
وتظل شامخاً يا أيها الأردن تطل من قلوب أبنائك خير بلد ، وتسكن في حدقات العيون السمر شارعاً وحارة ، بقراك الصغيرة ، والمدن ، وتغتسل بالادمع الحرى ، وتخرج ابيض كالضحكة على شفاه الأطفال ، واحتفالاً في الروح يجيء في كل موعد.
ها أنا أراك تأتي بسمة من قلوب صغيرة ، أودعت حنينها على الطرقات ، وما تزال تمشي ، فهي أغنية للتراب الأغلى من الذهب ، فدم يا وطناً لم يغادرك الشهداء ، ويا أرضا اختلطت بالأنفس الطيبة ، وبالناس الطيبين ، ويا مدناً كالحلم تغفو ، وتستيقظ عذبة طيبة ، ماء وسماء ، وحبات رمال ، وقطرة ندى فوق زهر اللوز في اللويبدة ، وحلاوة العشق في عجلون ، وليال طويلة في الطفيلة ، ولوحة من نقاء في الكرك ، عيون صافية في مأدبا ، وزرقة وخيال في الأزرق ، والليل المؤنس على أوتار ربابة جنوبية ، والأضواء على حدود النظر في السلط ، وأنت يا عمان كأنك مراجيع ليلة أسهرتها رؤى الأماكن القديمة ، بيضاء من نسج الخيال ، كأنك حلم مطل على الروح لم يكد ينفض من ذاكرة الأيام ، ووجهك الوضاء تباشير فرح ، ومفاتيح أمل ، وأمنية تحط في أرواح العاشقين ، على وقع الحنين. وهدأة ليلك مراويد كحل صبايا تضيء الصباحات ، وجذوة الحنين في الحارات ، وأحلام الزمن الجميل ، فعمان باحة لا يفارقها الفرح ، وأغنية تجيء في الروح مع كل موعد ، بيضاء تشرق من وجوه الطيبين ، والوجوه الجميلة العابرة في طيفك البلوري لوحة من نقاء ، وإباء ، وصفاء يكللها الحنين ، والمارين بين أجفانك يغذون الخطى نحو مستقبل يستلقي على ضفاف الروح ، والأماكن التي تحدث عن قصص تفيض بالشوق ، وأول الحب ، وترويدة الحياة.
عمان يا نكهة المساءات يا طاهرة ، يا قمر الليلة العربية ، يا عروس الشرق ، وحلم الشاعر ، يا روعة الأيام ، وعبير الصباحات ، يا الليلة الساهرة ، يا زاهرة إن أحبابك أنجم فجر يقفون على أعتاب قلبك ما دمت آسرة ، وضل الهدى من لم يتنسم باطيابك ، وتوضأ ، واغتسل بمآقيك الساحرة. حلوة المبسم طابت لياليك ، وطاب الهوى فيك ، فالمحبون الطيبون حنينهم لم يقطع الطرقات ، أولئك الذين اجروا في قلبك دماء الحياة ، ولاقوا حتوفهم فرحين ، وكانت حياتهم وكان مماتهم لأجل طهر الثرى ، والبطل الذي ما انثنى ، لمن غابوا من مشهد الوطن الرائع ، وظلوا تزفهم زغاريد الصبايا إلى الفرح الأخير ، فإن عمان مثوى الشهداء ، إن الذين رحلوا من اجل عينيك أحياء عند ربهم يرزقون ، والمحبون الأبديون لا يغادرون الذاكرة ، ومضوا مصابيح الدجى ، كليلة أقمار ، وأنوار ، وتظاهرة عشق على شرف الأرض. كانوا يسهرون في جفن الردى ، والناس نيام ، ويلامسون وجه الوطن بحنو وخشوع ، وعند حبك أوقفوا مشوار العمر ، شاهدين على النهضة ، وأرواحهم تطوف حول حلم لم ينقض عهده. وعمان تحميها المآقي ، وتسورها القلوب ، والى قلبها كل الدروب تقود.
والأردني لا يتوقف عن عشق التراب ، ويبدل روحه بلحظة عز ، فهو الذي يتجلى بالكرامة ، ويكون أول من يهدي للموت نفساً على اثر موقف ، فلا نكث وعداً ، وما صغر قامته ، وما تنكر ، وما انحنى ، وما أعطى الواجب ظهره ، وظل يقف في الصف الأول من أمته ، ويعطي من قلبه الكبير ، ويعيش على أعصابه إن مس الشر عربيا في أي موقع.
هو مهيوب أردني لم يبخل بالحب ، والدم معاً ، وظل يمد روحه في كل الشوارع العربية ، فدم شامخا لا تبدلك الأنواء يا وطني ، وارفع قامة أردنية تعلو فوق الجراح ، وليعلو فقرك فوق ذل الغنى ، فلا انحنت لهم هامة ، وما ذلوا وما وهنوا ، ولاقوا قسوة الأيام ضاحكين.