تونس بين الأمثولة والمثال!!

ثلاث وعشرون ليلة أطاحت بثلاث وعشرين سنة ، هذا بالضبط ما حدث في تونس ، لكن المسألة ليست لعبة تقاويم ، بقدر ما هو التراكم الذي لا بد ان يفضي الى ما يسمى قفزة نوعية وبالتالي انفجار.
تونس الان امثولة يتداولها الاعلام لكن هناك من يراهنون على تحويل الامثولة الى مجرد مثال. فهي قابلة للتكرار لاسباب مماثلة لكنها ايضا تملك قابلية الاستدراك ، فثمة احداث جسام تتحول الى دروس صالحة للاعتبار بها لكنها ايضا قد ترسل غبار طلع الى الفضاء فيكون اللقاح.. وبالمناسبة فان الشعوب تحبل ايضا كالنساء ولها وحامها.
في ستينيات القرن الماضي كان الوحام على رموز اقترنت بالتغيير الجذري ، ثم حدث ما حدث واستنقع العالم ليبلغ ذروة استنقاعه مع اسدال الستار على الحرب الباردة.
ان المثير الان هو هذا المخزون العاطفي الوطني الذي اندلع من عيون العرب وألسنتهم لكأنهم بحاجة الى اية مناسبة تَقول لهم بان تغيير الحال من المحال هي مقولة عقيمة او موعظة صدقها من لحقوا الضبع الى المغارة ، ولم يشأ لهم الحظ ان ترتطم رؤوسهم بسقفها فتحولوا الى وليمة.
كم هو مسكين هذا العربي الملتاع ، الحالم الذي اوشك على القنوط.
لكن الكلام الهادئ في اجواء صاخبة يتولى الاعلام بثها واستثمار توترها يصبح ثقيل الدم ، واشبه بمن يضحك في مأتم او يُبتلى في زفاف ، رغم ان الفاصل بين الضحك والبكاء في حياتنا العربية هو فاصل وهمي تماما كالفاصل الفضائي الذي سرعان ما يذوب في اعلان عن زجاجة زيت او صابونة او قطعة مجوهرات.
بالطبع دائما هناك من يحاول الاستدراك وتلقيح نفسه ضد مصير تراجيدي مماثل ، لكن ايضا هناك من تأخذهم العزة بالاثم ، ولا يرون غير ما يشتهون رؤيته ولا يسمعون الا صدى اصواتهم التي يعشقونها،
العربي وهو يتعامل مع احداث من هذا الطراز الذي بات نادرا ، يبدو كما لو انه يسدد مديونيات ، لنفسه وذاكرته اولا ، ثم يتحدث بطريقة تفتضح تفكيره ، لان هناك من ينوب عنه ، فمن الفروض ما هو كفاية ومنها ما هو عين.
ان تجريب مناهج التحليل سواء كانت نفسية او اجتماعية اضافة الى ما هو سياسي في ظاهرة تستدعي ردود افعال عاطفية يبدو غير ملائم للمقام ، فنحن تعودنا بسبب فائض الاحباط على نمط من التفكير الرغائبي الذي يحرمنا من رؤية المشهد كله وعلى نحو بانورامي.
ولا ندري لماذا لا يستوقفنا مشهد متكرر في عالمنا العربي عندما يتعلق الامر بالحراك العنيف للشعوب ، هو حالة انعدام الوزن وغياب الكوابح ، بغداد استبيح فيها كل شيء لحظة السقوط ، ولم يبق من مرجعية للناس سوى المسجد عندما طالب الشيوخ والائمة الناس باعادة ما استباحوه او استولوا عليه الى المساجد.
قد يكون هذا الخلل الامني والاخلاقي عرضا جانبيا في بعض الاحوال ، لكن تكراره وبهذه الوتيرة المثيرة يفتضح ما هو مسكوت عنه من ازمة الثقة المزمنة بين الفرد والدولة ، خصوصا ما يتعلق بالممتلكات،،