الأحجية اللبنانية

ليست أحجية أبي الهول الذي يبدأ حياته بالمشي على أربعة ويختمها بالمشي على ثلاث هي ساقاه وعصاه.. وليست أيضاً أحجية ابريق الزيت الفلسطينية التي تدور حول نفسها كالنافورة ، انها واحدة من أبسط المعادلات السياسية حيث التقاسم الطائفي للدولة ، لكنها أعقد المعادلات على الاطلاق في التفاصيل حيث تكمن الشياطين كلها ، ولا مكان لأي ملاك فيها.
انها عودة مقررة دائما الى أول السطر وأول المربعات والدوائر ، وما يقال لبنانياً عن تدوير الزوايا يتحول الى تربيع هذه الدوائر وجعلها ذات زوايا حادة لا تقبل الانفراج.
ما يحدث الآن في لبنان مجرد عينة تقليدية من صراع مزمن تحول الى بديل لدولة ذات أقانيم راسخة ومحددة ومجتمع مدني يعرف أطرافه ما لهم وما عليهم وفق عقد اجتماعي يخص الجميع ، فما من أزمة لبنانية الا وتفاجىء الناس بالتفاقم بحيث توشك على الانفجار لحظة توقع انفراجها ، وما أكثر الوسطاء في لبنان ، لكن ما أقل المصالحات ، لأن العودة الأبدية الى المرجعيات ذات النفوذ العابر للأجيال والحكومات تبقى هي العرف الأقوى من أي قانون أو دستور.
كان لبنان المشتبك مع بعضه ذات يوم أمثولة يقاس عليها فسميت الحالات المماثلة لحالته اللبننة ، الى أن دخل العراق بعد الاحتلال على خط هذه الأمثولة فصار لبنان نفسه يعاني من العرقنة نسبة الى العراق.
ما يحدث الآن هو انسداد أفق سياسي قد تعقبه عدة انسدادات في شرايين البلاد ، وكأن الخطأ بين المتبارين الآن اعلامياً خطان متوازيان.
لقد احتفل اللبنانيون مراراً بتخطي الأزمة المزمنة بدءاً من حرب أهلية دامت ربع قرن وأرسلت ظلالها واصداءها الى ما بعد لحظة الاعلان عن انتهائها. لكن هذه الاحتفالات كانت أشبه بما سماه رومانسيو القرن التاسع عشر اللحن الناقص أو الذي لم يكتمل ، لأن ثمة قوساً ضائعاً من الدائرة الممنوعة من استكمال محيطها الوطني حول مركز واحد،
البعض يرون أن حل الاحجية اللبنانية هو في استمرارها ، لكن من خلال اعادة انتاجها في كل مرة لأن الحل يتطلب انقلاباً جذرياً في الرؤى والمناهج وفلسفة المحاصصة السياسية وفق التضاريس الطائفية للبلاد.
ان الحروب الأهلية الباردة ليست أقل ضرراً من تلك الساخنة لأنها تبقي الناس في حالة تخندق وتوتر ورصد متبادل على حساب قضايا حيوية منها التنمية الشاملة وترميم البنية التحتية التي طالما كانت هدفاً لاسرائيل،
لقد ظلم لبنان قومياً مرتين على الأقل.. مرة عندما اختلط فيه السياحي مع السياسي خصوصاً لمن لم يستطيعوا الذهاب الى ما هو أعمق وأبعد من السطح الناعم الملون ومرة عندما خيضت في لبنان حروب لا يمكن تصنيفها بأنها حروب لبنانية لبنانية خالصة.
ان حب بعض العرب للبنان هو اشبه بذلك الحب القاسي الذي استغاث محمود درويش منه قدر تعلقه بفلسطين ، ولأن هذا البلد الذي لعب دوراً مبكراً في التنوير يكافأ بالخذلان فان الأحجية التي لا تقبل الحلل فيه لها بعدان آخران على مستوى الاقليم والعالم،،(الدستور)