فساد الملح

أين كان هذا المذيع ، وذلك الصحفي ، وهذا الاكاديمي وتلك التقدمية الزائدة عن حقوق الانسان قبل ان يحدث التغيير في اي بلد عربي بعشر دقائق فقط؟
وما الذي فعلته النخب وثرثارو المقاهي كي يمتطوا الموجات واحدة بعد الاخرى؟
هذه الاسئلة لم تولد للتو ، فقد راودتنا منذ أعوام طويلة ، بدءاً من بغداد قبل السقوط مروراً بالعديد من العواصم وليس انتهاء بتونس،
هناك مقولة شهيرة لجيفارا لا يحب البعض تذكرها رغم أنهم من حملة صوره وشعاراته والمرددين لمقولاته ، هي أن الثورات وقودها أناس لا يشهدون حصادها ، وغالباً ما يرث الدمَ أناسُ امتازوا بالقدرة على ارتداء طاقية الاخفاء كي يصبحوا رجالاً أو نساء لكل العصور..
إن فساد الملح هذا ليس فقط بمعناه اليسوعي بل بكل دلالاته السياسية والاقتصادية والتربوية والثقافية في عصرنا أصبح ظاهرة يجري تكريسها يومياً ، فمن يناط بهم التغيير وقيادة السفينة غالباً ما يتحولون الى فئران يشمون رائحة الغرق قبل حدوثه فيقفزوا الى الماء أو اليابسة لا فرق بحثاً عن النجاة،
وما أن نتذكر تلك السلالة الخالدة من شهداء النضال فلسطيني عبر مختلف المراحل حتى يقفز الى سطح الذاكرة من أجادوا ارتداء طاقية الاخفاء ، ومنهم من هربوا ذات بيروت من الخنادق الى الفنادق، وقد لا يكون هناك شعب في العالم يشذّ عن القاعدة التي أطلقها جيفارا حول وقود الثورات وحاصديها ، ومن ينزفون الدم ومن يحولونه الى عصير بشري،
ان حالات انعدام الوزن والفراغ السياسي والفكري التي تعتري مجتمعات معينة لحظة التحول الجذري هي نتاج طبيعي لغياب النخب الفاعلة ، وحتى المعارضات الحقيقية التي لا ينجو نسيجها ومجمل أدبياتها من عدوى أشد النظم شمولية حيث يصبح وباء ، ويجب اعلان المناطق التي اصيبت به مناطق منكوبة بكل المقاييس اخلاقيا وثقافيا واجتماعيا وسياسيا،
نعم ، اذا فسد الملح بماذا يملح الناس ما يدخرونه من انكار او حتى مأكولات ومشروبات؟ والمرحلة التي نعيشها الآن لكن بأسلوب ادنى من الموت هي مرحلة فساد الملح في عالمنا العربي ، الذي اصبحت مياهه وفضاءاته مستباحة ، والتي قد تسرق بحيث يتسول النهر العظيم قطرة ماء فلا يجدها لانه اضاع المنابع،
قد يكون من الاجحاف وضع النخب العربية كلها في قارب واحد ، فثمة من دفعوا ثمن الصدق ولم يكذبوا او يخذلوا اهلهم مقابل اضعاف مضاعفة باعت وساومت وارتدت الف قناع وقناع كي تتأقلم مع كل الازمنة ، الا يخطر ببال الناس رغم انشغالاتهم اين كان هذا الثرثار الذي لا يكف عن الكلام حول الحرية قبل ان يرحل او يغيب او يعدم سيده؟
وكيف يمكن للداء بكل جراثيمه ان يكون بلسما شافيا؟ اللهم الا اذا قبلنا بأن من اغرق ابنه او أباه في البحر يمد يده لانقاذ ابن عمه او جاره من الغرق؟
من النخب العربية من سبقوا الحرامي لانهم يعزفون على وتر آخر غير الوتر الذي يزعمونه ، ومنهم من يتمنى ان يطفوا على دم الآخرين كي ينجو او يسطع نجمه الآفل،،(الدستور)