انتحاران

كما في كل الاشياء لا تتساوى المفاهيم في دلالتها لمجرد انها تمتلك لغة واحدة- فالمفهوم هو ابن سياقاته ونتائجه - ومن ذلك بعض التعليقات على انتحارين:
الشاب التونسي محمد البوعزيزي - واي شاب يفجر نفسه في عرس او جنازة او كنيسة او حسينية او مسجد..
فما بين الانتحارين فرق كبير رغم انهما من بيئة واحدة: دورة الخراب والانحطاط العربية والافلاس الفكري والسياسي للدولة البوليسية العربية التي غيبت الشروط الموضوعية لبناء مجتمع مدني معاصر واعادت انتاج العناصر البدائية ما قبل الرأسمالية من طائفية وقبلية وجهوية..
وحسب مدرسة التحليل النفسي فان الازمة والفشل والعجز الناجم عن صعوبة مواجهة الكبت او القهر باشكاله المختلفة من فرويد الاب (الجنس) الى تلاميذه المجددين (الكبت السياسي والطبقي) يقود الى خيارين هما العدوانية المفرطة او التسامي والتصعيد (الانساني) وهما مظهران او قناعان لظاهرة واحدة هي الموت او التدمير او الانتحار, الفردي او الجماعي.
وبهذا المعنى, فان انتحار محمد البوعزيزي غير انتحار التكفيري وسط جماعات مدنية لا ذنب لها ولا حول ولا قوة سوى انها ولدت وبدون ارادتها على مذهب او ديانة او جماعة قومية او قبلية اخرى..
وحيث يبدو انتحار التكفيري شكلا من العدوانية المفرطة التي تأخذ شكلا تدميريا على الصعيد الجماعي, فان انتحار البوعزيزي, شكل من التسامي (الفردي) الذي قاد الى تداعيات جماعية ايجابية واشعل الكبت او القهر الجماعي الساكن الراكد, وحوله الى عمل وبطولة جماعية خلاقة..
وبوسعي المغامرة (المعرفية) وادراج القرابين البشرية في كل زمان ومكان ضمن ظاهرة التسامي المذكورة..
ومن المفارقات اللافتة للانتباه هو ان هذه الظاهرة التي لا تعرف بهذا الاسم ابدا (الاستشهاديون) هي في حقيقة الامر امتداد لتقاليد غابرة عرفتها كل الشعوب والامم من كل الديانات والمذاهب السماوية والوثنية على حد سواء.(العرب اليوم)