الهروب من الهوية!!

قد يدرك البعض وإنْ بعد فوات الاوان أنّ الفرار الذي لاذوا به هو من الهوية أولا ، فعاشوا حياتهم في حفلة تنكرية ، وبمرور الوقت وتكرار مثل هذه الحفلة أصيبوا بازدواجية قاتلة ، فلا هم هنا.. ولا هناك ، وليسوا أنفسهم أو حتى قريبين منها،
لقد جرب العربي ان يحمل تاريخه على ظهره كالحطاب مثلما وصفه الراحل الماغوط ، وقرر ان ينزع الوشم عن يده أو كتفه ، ثم قرر ان يغير اسمه وأسماء ابنائه تماهياً مع واقع آخر ، لكنه سرعان ما اكتشف ان الآخرين هم الذين ينتجون هويته من خلال تذكيره في كل مناسبة بأنه ليس منهم ، وقد سمعت بعد احداث الحادي عشر من ايلول بفترة قصيرة من الراحل هشام شرابي حكاية رواها بعينين دامعتين ، فقد خاطبه أحد موظفي المطار في نيويورك مداعباً.. أو بمعنى أدق راطناً بالعربية.. يا مرحبا وهو بالتأكيد حول الحاء الى هاء كما يليق بالاستشراق في كل أوان..
بعد نصف قرن من التعليم والمشاركة في أهم المعاقل الاكاديمية الامريكية يجد هذا الاكاديمي نفسه غريبا ، لأن من رحب به قصد ان يذكره بأنه ليس انجلوساكسونياً وليس من قبيلة الواسب شديدة البياض،
وقد لا يعي البعض ان كل ما ألم بهم كان بسبب الهروب من الهوية ، لهذا بذلوا جهداً كبيراً لكي لا يتذكر الآخر من هم ، ومن أين أتوا؟ واحياناً يقول بعض العرب المهاجرين انهم رضوا بالبين والبين لم يرضَ بهم ، فهم غادروا مساقط رؤوسهم وأرواحهم معاً ، وهم يجرون وراءهم جذورا ذابلة من فرط الظمأ ، ومن قال منهم مع الشاعر:
سأرحل عن بلاد أنت فيها
ولو جار الزمان على الفقير..
عاد بعد ان ابيض شعره وبلغ أرذل العمر.. ليردد مع شاعر آخر:
بلادي وان جارت عليّ عزيزة
وأهلي وان ضنوا علي كرام..
ما من سبيل أمام الهاربين من جلودهم واسمائهم وشكل أنوفهم ولون بشرتهم وذاكرتهم الرملية إلا أن يقرروا مواجهة الذات ولو في الاسبوع الاخير من اعمارهم ، فالآخرون يريدون العربي لحماً ، ثم يلفظونه عظماً أو كالنواة على رصيف العالم.
ان هناك شعوباً تعترف بأنها اقل موروثاً ومنجزاً حضارياً وسماحة وعدداً وموقعاً من العرب ، لكنها تعيد اكتشاف ذاتها وترفض ان تستبدل الهوية أو الاسم مقابل أموال العالم كلها،
ما نخشاه هو ان يسخر منا هؤلاء الذين يقفون في طوابير الفيز والتأشيرات ، فهم عالقون بالجغرافيا والتاريخ وقبور أهلهم ولا ندري كم سيمضي من الوقت وكم سيهانون قبل ان يتذكروا انهم هاربون من انفسهم اولا ، فالهوية ليست عباءة أو بنطال جينز أو اي زي آخر ، انها وشم لا تصل اليه مباضع الجراحين لأنه في الذاكرة والقلب ، وليس معنى هذا ان ننكفىء داخل شرانقنا ونعيش حياتنا كمونولوج طويل ، فالعالم اتسع حتى ضاق ، ثم ضاق ثانية حتى اتسع ومن صدقوا ان العولمة حولته الى قرية ، سوف يصابون بالدهشة عندما لا يعثرون في هذه القرية على شارع أو زقاق يخصهم أو حتى على بيت يؤويهم،،(الدستور)