جاحدون أم انتحاريون فدائيون؟

منذ ان قام التونسي محمد البوعزيزي بحرق نفسه احتجاجا على الظلم والطغيان في تونس ، تفجرت على القنوات الفضائية فتاوى دينية تحرم فعلته وترى ان مثواه النار استنادا الى حديث نبوي بشأن من ينتحر لانه يكفر بالنعمة ، واظن ان هنالك فروقات بين من ينتحر للخلاص من خيانة كافرا بالنعمة وبين من يقدم على الانتحار افتداء لشعبه ، واحتجاجا على الظلم الذي يصيبه ويصيب بني قومه ، ومهما يكن الحال فلا اقصد ان ادخل في جدل فقهي او شرعي الا ان الثابت هو ان مصير الانسان في الآخرة هو بين يدي الله الغفور الرحيم.
وما نريد ان نشير اليه هو ان الظالمين هم الجناة وان المجني عليهم هم الضحايا ، وفي هذا السياق يقيس مفكر اسلامي مستنير هذا الامر استنادا الى نصوص قرآنية عبر آيات منها قوله تعالى "ان الله لا يحب الجهر بالسوء الا من ظلم" النساء 148 ، ذلك ان اصل النهي عن الجهر بالسوء والمسلم اللعان مدان في احاديث نبوية كثيرة الا ان المظلوم الذي يستشعر الغبن والقهر يستثنى من الادانة ويغفر له فعله كما يقيس هذا المفكر على الآيات في اخر سورة الشعراء والتي تقول: (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبًعُهُمُ الْغَاوُونَ. أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فًي كُلًّ وَادْ يَهًيمُونَ. وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ. إًلاَّ الَّذًينَ آمَنُوا وَعَمًلُوا الصَّالًحَاتً وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثًيرًا وَانْتَصَرُوا مًنْ بَعْدً مَا ظُلًمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذًينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبْ يَنْقَلًبُونَ).
ان الحكم على الشعراء ليس واحدا في هذه الآيات ولئن كانوا من يتّبعهم الغاوون الا الذين آمنوا وانتصروا من ما ظلموا مستثنون من الادانة والعذاب ، ان غضب المظلوم تفتح له ابواب السماء سواء جهر بالسوء او اشعل النار في نفسه ، ولا ابالغ اذا قلت ان الظلم هو اسوأ شيء في الدنيا وهو ما يؤكده العالم الاسلامي احمد بهجت ويراه اسوأ من الكفر وهو يستذكر عبارة بهذا الشأن لاستاذه في الازهر حيث يقول: (أدهشتني العبارة حين سمعتها لأول مرة. كان الأستاذ يقول: قد يقوم المُلك على الكفر ولكنه لا يقوم على الظلم. استطرد يشرح فكرته: لأن الكفر مسألة اعتقادية بين المرء وربه ، وهي مسألة لا تضر سوى صاحبها وحده ، ولا يتعدى اثرها صاحبها إلى الآخرين.. ان الكافر لا يدعو إلى شيء إذ ليس لديه شيء يدعو الناس له. أما الظلم فإنه مسألة اجتماعية تضر الجميع ، ويتعدى اثرها صاحبها إلى الخلق جميعا.. اعجبني تحليل العبارة وما زالت تخطر لي بعد هذه السنوات الطويلة ، ان الظلم يؤدي إلى اختلال قانون الحياة ، لا يصير التفوق هو معيار التقدم أو النجاح ، لا تعود هناك حقوق ثابتة للأفراد ، وهذا يوجد كراهية تتأجج في الصدور وبمرور الوقت تنفجر الكراهية إلى عنف يمتد أذاه إلى صاحبه وإلى الأبرياء وغير الأبرياء. ان العدل هو الأب الشرعي للحب ، مثلما ان الظلم هو منبع الكراهية ، وهذا هو السر في وجود مجتمعات متقدمة وناجحة على المستوى المادي رغم عدم إيمانها ، ووجود مجتمعات متخلفة وفاشلة رغم إيمانها.(الدستور)