العرب في ظلال «التَوْنسة»

ظاهرة "التَوْنسة" تجتاح العالم العربي ، ويتردد صداها في جنبات الشوارع والميادين ، لكن الظاهرة التي لم تصل خواتيمها بعد ، في منشئها ووطنها الأول ، لا يبدو أنها مرشحة - أقله في المدى القريب - للوصول إلى نهاياتها الظافرة في دول عربية أخرى ، تعج شوارعها بالمتظاهرين والمعتصمين والمحتجين على الظلم والقمع والبطالة والفقر والجوع والفساد والاستبداد.
في تونس ، نجحت الانتفاضة بالإطاحة بزين العابدين بن علي ، وحولته من "زعيم مهاب" ، تنتشر صوره في أربع أرجاء البلاد ، إلى مطارد مطلوب للانتربول ، وقد أثبت الشعب التونسي ونخبه السياسية والمدنية والفكرية ، أنه أوعى وأذكى من أن يُضحك عليه ، بإزاحة رأس النظام وإبقاء جثته ، وها هو ينجح يوماً إثر آخر في التخلص من المزيد من أعضاء النظام وأطرافه المتهرئة ، على أن النظام ما زال قائماً برموزه وأجهزته السابقة حتى الآن ، ويبدو أن البعض من أركان النظام ، وتحت شعار حماية الثورة ، يريد أن يمتطي صهوة جواد الانتفاضة لتجديد حضوره ودوره ، على أن الملف التونسي يظل مفتوحاً على شتى السيناريوهات والاحتمالات ، فالثورة لم تنجز أهدافها بعد ، الثورة ما زالت مستمرة.
في عواصم عربية ، ثمة أصداء "تونسية" تسمع في الشارع والنخب السياسية والأوساط الإعلامية ، بل ويمكن القول ، أن الأمر يكاد يلامس ضفاف "الانتفاضة" في بعض هذه العواصم - القاهرة على سبيل المثال - على أن التغيير لم يقرع الأبواب بعد ، ويبدو أن أوانه لم يحن ، وأن شروطه لم تكتمل أو تنضج حتى اللحظة على الأقل.
والتغيير الذي نتحدث عنه ، ينشطر إلى نوعين ، الأول ، تغيير في السياسات ، كما في الجزائر وبيروت تغيير في الأنظمة كذلك الذي يطالب به المتظاهرون في شوارع القاهرة وصنعاء... فبعض الدول العربية يبدأ التغيير الجدي فيها بتغيير النظام ، وبعض الدول العربية يكاد يتماهى فيها تغيير السياسات بتغيير النظام ، فالمهمة واحدة ، أقله من وجهة نظر الجماهير الغاضبة وكثير من النخب السياسية والإعلامية والثقافية.
ثمة دول عربية ، افتقدت أنظمها للمرونة ، وبلغ تداخلها بـ"المؤسسة" و"الإدارة" حداً يصعب فكاكه ، هذه الدول يبدو التغيير فيها أصعب وأعلى كلفة ، حتى أن أحد قادتها تحدث ذات يوم لمثقفي بلاده بأنه وعائلته تولوا السلطة بالسيف ، ومن يريد أن يتولاها من بعدهم ، فليس له سوى السيف أيضاً ، فالسيف عند هؤلاء أصدق إنباء من الكتب وصناديق الاقتراع وحرية الرأي والتعبير والمجتمع المدني وحقوق المرأة.
"التَوْنسة" تحوم في سماء العالم العربي ، وتطوف في شوارعه وميادينه ، في مدنه وقراه ، بيد أنها لن تتنزّل على كل مجتمع عربي بذات الشكل والطريقة ، ولن تتخذ ذات المسار ولن تنتهي إلى المصائر ذاتها ، فالمجتمعات العربية مختلفة من حيث درجة تطورها وتمدنها ، ومن حيث درجة توحدها وتجانسها ، ومن حيث طبيعة أنظمتها وحكوماتها ، وفي ضوء ذلك كله ، فإن لكل بلده عربي "نموذجه التونسي" الخاص به.
لكن القاسم المشترك الأعظم ، الذي لا تخطئه عين أو أذن ، هو أن درس رفع منسوب الجرأة في النفوس والنصوص التغييرية العربية ، رفع درجة حرارة الجدل الوطني حول الركود والتغيير ، رفع مستوى القناعة عند رجل الشارع العربي بأنه قادر على إحداث فرق ، بل وإحداث فارق جوهري.
تونس بعد انتفاضتها لن تعود أبداً إلى ما كانت عليها قبلها ، أياً كانت مآلات الثورة - الانتفاضة - أو مصائرها... والعالم العربي بعد انتفاضة تونس كذلك لن يعود كما كان ، فلا الحكام سيحكمون بما اعتادوا عليه من وسائل وأساليب ، ولا المحكومين سيكون بمقدورهم العودة إلى ممارسة طقوس الخنوع والذل والانكفاء على فقرهم وعوزهم وجوعهم.
لقد كنّا نظن قبل ستة أسابيع فقط ، أننا نعيش "اللحظة التركية" في العالم العربي ، فإذا بنا بعد انتفاضة تونس ، نعيش "اللحظة التونسية" ، ومن حسن حظنا أن كلتا اللحظتين تدفع في الاتجاه ذاته ، وتسير بنا على الطريق ذاته ، طريق الإصلاح والتغيير والتنمية والحرية والكرامة وحقوق الانسان ، فطوبى لتونس وشعبها وانتفاضتها ، وطوبى لتركيا وشعبها وقيادتها.(الدستور)