رغيف ووردة وبندقية

هذه أقانيم الاقامة في هذا الكوكب ، بدءاً من الضرورة الدنيا حتى الحرية القصوى ، فالانسان لا يعيش بالرغيف وحده حتى لو كان معجونا باكسير الحياة ، كما أنه لا يعيش بالورد وحده.. وثمة أوقات يفاضل فيها الانسان بين وردة وبصلة فيختار الأخيرة لأنه جائع ، ونذكر كيف عافت الحمير باقات الورد في غزة عندما أصاب هذه السلعة الكساد ومنعت من التصدير خارج القطاع.
أما البندقية فهي الشجن البشري المزمن ، منذ كانت عصا ثم قوساً وسهماً وأخيراً صاروخاً عابراً للأصدقاء والاعداء وليس للقارات فقط.. هذه التكاملية في مطالب الآدمي كي يعيش ويكون حراً ويدافع عن حريته وبيته وأطفاله كما يفعل أي طائر أو حتى حشرة ، وهي تدافع عن العش أو الوكر ، لا تقبل الاختزال أو الطرح ، لكن ماذا يفعل الانسان بوردته أو رغيفه أو سلاحه ؟.. ذلك هو السؤال الخالد منذ أول كهف بشري حتى القيامة..
فالورد يصلح للزفاف كما يصلح اكليلاً على شاهدة قبر ، والرغيف قد يكون ناشفاً ونظيفاً وقد يكون مغمساً بالدم أو العرق أو النفط أو ماء الوجه ، أما السلاح فطالما اخطأ الانسان في استخدامه لأن البوصلة تصاب أحياناً بالعطب وتصبح كل الجهات جهة واحدة ، تماما كما يصاب الانسان بالعمى فيصبح كل شيء أسود في ليل بلا نهاية ، او كما قال هيجل تصبح الأبقار كلها سوداء عندما يعم الظلام،
ان أردأ منجز للسياسة منذ تحولت من علم لتغيير وتطوير المجتمعات الى لعبة قذرة كما سماها سارتر هو اختزال البشر وتحويلهم أحيانا الى أرقام صماء أو مجرد هويات تمشي على ساقين ، وللانسان في هذا الكون مطالب أحياناً ينساها بسبب اضطراب قائمة الاولويات ، فلا معنى لامتلاك أرغفة الأرض كلها بلا حرية ولا قيمة لسلاح لا يعرف صاحبه أين يوجه فوهته ، وأذكر ان رسام الكاريكاتير في الغارديان رسم قبل أعوام بندقية بعدة فوهات وواحدة من تلك الفوهات تتجه نحو رأس من يحمل البندقية.
ان الثقافة بما آلت اليه من ارتهان وأدلجة قسرية وتجويف وتجريف هي السبب في تقزيم الآدمي ، وتحويله الى مجرد اسفنجة لها مئات الأفواه الفاغرة ، فهي ما ان تختزن سائلاً ما حتى تبقى بانتظار قدم تدوسها كي تفرغ ما فيها.
يحتاج هذا العالم المعولم والمجوف والمختزل الى أدنى أبعاده الى ثقافة أرحب من هذه التي علقت بذيل التاريخ ودجنت في اسطبلات السياسة.
انها اللقاح الباسل ضد الاصابة بوباء العمى الايديولوجي ، أو انفلونزا العنصرية الأسوأ من انفلونزا الخنازير ، ولو كنت أملك مليون نسخة من كتاب اللبناني أمين معلوف "الهويات القاتلة" لوزعته على الناس مجاناً كي يدركوا ان فلسفة التعايش هي منجز حضاري بامتياز وان الآخر ليس جحيماً أو عدواً الى أن تثبت براءته. ما يراق الآن من دماء في هذا الكوكب المحتل ليس كله دفاعاً عن الانسان ، فأكثره دفاعاً عن حق القاتل في مواصلة القتل ، لأن مناخات الثقافة خصوصاً ما يتعلق منها بالسياسة والايديولوجيات موبوءة ومثقلة بسحب من رطوبة الدم والدمع وليس من الماء،
ما جدوى كل هذا التطور التكنولوجي الذي جعل كل قرن مضى مقابل أسبوع من عصرنا اذا كان الانسان مطروحا من معادلاته الصماء؟
وعلينا ان نعيد تعريف الثقافة والانسان معاً كي نصدق بأن لدى هذه الحقبة التصديرية العمياء بشراً ومثقفين،،