ما وراء الاحداث

ثلاث ملاحظات مصيرية تكمن فيما وراء تطورات الاحداث الحاصلة في لبنان وتونس ومصر ، ملاحظات لا ينتبه لها الاعلام المشغول بالحدث والمواطن المأخوذ بالانفعال.
الاولى نتناولها هذا اليوم وتتعلق بالجيش: فمنذ احداث نهر البارد ، الى ايام التكليف الوزاري الاخير في لبنان اضطر الجيش الى الاضطلاع بدور قوى الامن الداخلي. كذلك في تونس ، وكذلك بالامس في مصر. وبعودة الى التاريخ القريب ، نتذكر ان رهان تحويل الجيش من حارس للحدود ، مهيأ لمواجهة العدو ، الى قوة داخلية محدودة ، هو رهان بدأ مع عراق صدام حسين. فما ان انتهت الحرب العراقية الايرانية ، حتى طلب من الحكومة العراقية تخفيض عدد الجيش وعدته من السلاح الثقيل والتخلي عن المشاريع النووية. وكانت تلك بداية الازمة بين الغرب والعراق ، لا الكويت. فالكويت لم تكن الا نتيجة وتطورا من تطورات عض الاصابع هذا. ولذا ما ان حصل الاحتلال حتى كان قرار حل الجيش هو اول قرار اتخذه الحاكم العسكري الاميركي.
في لبنان لم يكن الصراع سرا بين مطلب كونداليزا رايس بتغيير عقيدة الجيش وتحويله الى قوة تدخل داخلية ، وبين رفض الرئيس اميل لحود ، ومعه قائد الجيش انذاك الرئيس الحالي اميل سليمان لهذا التحول. غير ان احداث نهر البارد فرضت ذلك رغما عن الجميع. وبالامس عندما اشرفت البلاد على الازمة مع سقوط حكومة الرئيس سعد الحريري ، وتحضيرات تشكيل الحكومة الجديدة ، طلب الى الجيش - لا الى قوى الامن الداخلي - وضع خطة امنية للبلاد ، وبالفعل دفع ثمنا كبيرا من جراح منتسبيه في المواجهات مع المتظاهرين.
في تونس بدأ كان الجيش هو الخيار الوحيد امام المواطنين والسياسيين ، وبعد ان حافظت قيادته على االصمت في الاسابيع الاولى ، خرج قائده عن الصمت ليعلن بطريقة او باخرى اضطلاع مؤسسته بدور قوى الامن الداخلي.
غير ان القصدية المشبوهة اكثر ، هي تلك التي ظهرت في مصر ، حيث كان واضحا ان انسحاب قوى الامن لم يكن صدفة ولا عفويا ، بل ان فراغا حصل بين اختفائهم كاشباح قصة خرافية ، ونزول الجيش الى الشوارع. تاركا سؤالا مهما: هل قصد منه جعل المواطن يشعر بان لا شيء يمكن ان يحمي امنك الداخلي الا الجيش ، وجعل الجميع يقتنع بان تحول الجيش الى امور الامن امر لا بديل عنه. ويجعلنا نسأل: هل ثمة خطة ما لتحويل الجيوش العربية الى قوى امن داخلي ، وتحويلها عن دورها الاساسي كقوى حرس حدود؟.
واذا ما بدا الامر بحكم الضرورة كما هو الحال الان ، فهل من ضمانة الا تتحول الامور تدريجيا الى ممارسات مختلفة ، من تلك التي قد لا تبقي على الحب الكبير بين الجيش والشعب؟ والسؤال الاخير: هل نحن بصدد التحول تدريجيا من حكومات ديكتاتورية الى حكومات عسكرية؟.
عن السؤال الاخير سيجيب البعض ، ان هذا ما كان يحصل دائما ، فالرئيس مبارك عسكري ورؤساء لبنان قادة جيش سابقون ، والرئيس التونسي السابق كان عسكريا ، وقبل هذه المرحلة عشنا مرحلة الخمسينيات والستينيات في ظل حكومات عسكرية متلاحقة. لكن المقصود هنا غير ذلك ، المقصود ليس هوية الافراد بل جسم المؤسسة العسكرية ، ودورها. وبين هذين الامرين علاقة جدلية عميقة ، اذ ان المؤسسة العسكرية تبقى على تماسكها ، ونقائها ، وتعاليها فوق الخلافات الداخلية وسموها الى حجم الوطن ، طالما ظل دورها هو ذلك الذي تحدده مفاهيم تكوين الدولة ، حماية الوطن من الخطر الخارجي. ولكن ما ان تدخل المؤسسة في دور اخر ، خاصة دور السلطة المدنية والاقتصادية ، فانها سرعان ما تصاب بكل الامراض التي تضرب السلطات الاخرى. يضاف اليها قدرة العقلية العسكرية على القمع الاشد.
واذا ما اخذنا بعين الاعتبار مسألة ثالثة هي طبيعة ابعاد الجيش عن التسييس ، فان غالبية ضباطه يكونون ابعد عن العقلية السياسية ، في حين يطيعهم الجنود بشكل تلقائي.
انها مسالة الاختلال في طبيعة تركيب الدولة ، فوزارة الداخلية غير وزارة الدفاع ، والجيش غير قوى الامن الداخلي ، والخلل الاكبر يكمن في تحويل قوى الامن الى ميليشيات تابعة لطغمة معينة في النظام بحيث لا يعود لها ان تؤتمن على دورها ، خاصة عندما تنشأ على ظهرها طفيليات تفوقها حجما من مثل الحرس الرئاسي في تونس بن علي ، وفرع المعلومات الذي تضخم حجمه سبع مرات بحيث شكل مشكلة لوزير الداخلية زياد بارود في لبنان ، بدلا من ان يكون ذراعه اليمنى.
الاخطر في كل ذلك ، ان نكون بصدد تمييع للجيوش العربية ، وبعد ان نجح حل الجيش العربي الاقوى في العراق ، فهل جاء دور تحوير الجيش العربي الثاني ، الذي حقق نصر اكتوبر؟ هل يراد لاسرائيل ، الا تكتفي بانها صاحبة الجيش الاقوى في المنطقة العربية ، بل ان تصبح صاحبة الجيش الوحيد؟ مع ما في ذلك من التفاف على منظمات الكوماندوس التي لا تستطيع وحدها تحقيق وصيانة اي انتصار.(الدستور)