العرب إلى عصر الانتفاضات الاجتماعية الديمقراطية

سنرى كيف ستمضي المسيرة المليونية اليوم، وإذا لم يرضخ النظام ويرحل مبارك فالخطوة الأخيرة الباقية هي العصيان المدني العام، وهنا فالأمر يحتاج الى درجة عالية من التنظيم والإدارة، إذ يجب تحديد القطاعات التي ينبغي توقف العمل فيها وتلك التي يجب أن يستمر حتّى لا يقع ضرر فادح مثل قطاعات الصحّة والكهرباء وغيرهما. والحاصل ان الانتفاضة الشعبية هي حركة ذاتية الدفع لا تخضع لقيادة وإدارة محددة، فإن الرهان هو على التناغم التلقائي والالتزام الذاتي، إذ تصدر نداءات من الشارع لتتحول سريعا الى أجندة متفق عليها يتمّ العمل بموجبها.
والحقيقة أن هذا ما يحدث الآن، فمن الطريف أن تقرأ في الأخبار تصريحات وإعلانات مواقف اسم الفاعل فيها هو "المتظاهرون". هذه هي قيادة الانتفاضة... "المتظاهرون"!! ليسوا زعيما تدين له الجماهير بالحب والولاء ولا هيئة أركان في مقر سرّي أو علني ولا قيادة مركزية تصدر الأوامر والتوجيهات. وعندما انطلق السلب والنهب والتخريب في ظلّ اختفاء أجهزة الأمن كليا من المشهد (وبعضها كان متورطا في الأمر)، لم يتأخر الإبداع الشعبي عن تعبئة الفراغ بتنظيم ذاتي وتلقائي من خلال لجان أهلية في الأحياء تتولى الحراسة والأمن وحتّى تنظيم السير.
كل شيء يشير أن الانتفاضة الشعبية سائرة في طريقها حتّى تحقيق أهدافها ولم يكن "المتظاهرون" بحاجة الى قيادة تصوغ لهم شعاراتهم وتقول لهم ما الذي ينبغي رفضه أو قبوله. رحيل مبارك وإنهاء نظامه هو الهدف، واذا تأخر الرجل أكثر ووقع المزيد من الشهداء فقد يصبح الشعار منعه من الهرب والقبض عليه ومحاكمته.
كنّا قبل أسبوعين فقط نتساءل عن شرارة تونس الباهرة أين ستذهب أولا لتشعل انتفاضة جديدة، فكانت مصر، مصر أم الدنيا والشقيقة الكبرى وقائدة العرب قبل ان يفقدها نظام الركود والفساد والتوريث دورها ومكانتها، ها هي تستعيد كل بهائها وعظمتها. وشعبها الذي أهين بالفقر والبؤس والعجز هاهو يعود بأفضل ما فيه ولديه من شجاعة وكرامة وكبرياء.
كم راودتنا شكوك كدنا معها نستسلم للنظريات العنصرية حول الجينات العربية، فقد كانت موجة الديمقراطية تجتاح القارّات الخمس وترجع مدحورة عند أسوار العروبة. وإذ غادرنا عصر الانقلابات العسكرية دخلنا بكل فخر واعتزاز عصرالزعامات المؤبدة والجمهوريات الوراثية. ثم على غير موعد تأتي النتائج المتأخرة لفحص الجينات على نحو باهر فاق كل التوقعات. الانتفاضتان في تونس ومصر هما الأولتان من نوعهما على الاطلاق؛ فها نحن ندخل عصر الانتفاضات الاجتماعية-الديمقراطية بعد عقود طويلة على انتكاسة الثورات الوطنية التحررية، وخواء الحركات التصحيحية وفشل مشاريع الاصلاح من فوق. وأجمل ما في انتفاضة الشارع العربي اليوم انها اجتماعية مدنية سلمية ديمقراطية ليس لها قيادة غير ذاتها، تلتحق بها القوى والاحزاب من دون أن يدعي أحد الوصاية عليها.(الغد)