الشيخ الغنوشي في حضن حاضرته الخضراء من جديد

لم يفاجئنا استقبال الآلاف للشيخ راشد الغنوشي في مطار تونس يوم الأحد ، فالرجل ليس مجرد معارض سياسي جاء من الخارج بعد رحلة نفي طويلة ، بل هو الرمز والعالم والمفكر الذي يعرفه الناس ، ليس في تونس وحدها ، وإنما في العالم العربي والإسلامي أيضا.
طوال 22 عاما في المنفى ، ظل الشيخ متشبثا ببوصلة الأمل بأن يختم أيامه في البلاد التي منحها عمره وشبابه ، وظل وفيا لهويتها وقيمها الأصيلة ، ودفع من أجل حريتها وكرامتها سنوات طويلة من السجن والتعذيب ، وتاليا النفي ، وها هي تونس التي أحب ، تفجر انتفاضتها الأجمل ، وهو الذي بقي يبشر بزمن الانتفاضات على الظلم في كل مكان ، لاسيما في فلسطين التي أحبها وعاش قضيتها كما لم يفعل أي رمز إسلامي آخر.
عندما كان بعض الغربيين يسألونه عن رأيه في قرارات ما يسمى الشرعية الدولية والاعتراف بالكيان الصهيوني كثمن لمجاملة حركته ومظالمها ، لم يكن يتلعثم كما يفعل إسلاميون كثيرون من أجل إرضاء الغرب ، بل كان يقولها صريحة ، إن هذه الأرض من بحرها لنهرها ملك للعرب والمسلمين ، ولا سيادة لليهود على شبر منها.
كان الطاغية يكرهه شخصيا ، ويقول ذلك بالفم الملآن ، ومن أجل هذا أراد بعض الصغار أن يجعلوا من إزاحته عن قيادة النهضة مفتاحا للتصالح مع النظام ، مع أن الأخير لم يمنح أيا منهم أكثر من عودة فردية ذليلة.
استقبله الآلاف ليقولوا: إن النهضة لم تمت ، وإنها بشيوخها وشبابها لا تزال هنا ، حاضرة بقوة ، إذ كيف تغيب حركة قدمت أجمل رجالها قرابين من أجل حرية تونس وكرامة أهلها وتثبيت هويتها وانتمائها إلى أمتها ودينها ، بينما كان الطاغية يسعى إلى تشكيلها على نحو آخر من خلال سياسة "تجفيف الينابيع".. ينابيع التدين بالطبع ، ومن خلال سياسة خارجية تخدم الغرب والكيان الصهيوني.
في تونس ، خرجت جحافل الشباب في استقبال الشيخ ، ومن ورائهم وقف حشد من أجمل الرجال الذي قضى بعضهم أكثر من عشرين عاما في السجون دون أن يذلوا أمام جبروت الطاغية. كان هناك الصادق شورو ، علي العريض ، حمادي الجبالي ، الحبيب اللوز ، العجمي الوريمي ، وآخرون لا تحضرنا أسماؤهم ، لكن الله يعرفهم وجماهير تونس تعرفهم أيضا ، وستعرفهم أكثر خلال المرحلة المقبلة حين يتسع فضاء الحريات وتبدأ المرحلة الجديدة.
عاد الشيخ ، لا ليكون رئيسا ولا وزيرا ولا نائبا ، فمن بين أحبته الذي سار معهم رحلة النضال ، والرجال الذين رباهم على حب تونس وحب الإسلام ، من بين هؤلاء ثمة قادة يمكنهم قيادة المرحلة ، بل عاد ليكون مع تونس ومع أحبته في رحلة التأكيد على أهداف ثورة الياسمين التي انطلقت من أجل تونس حرة كريمة تنتمي إلى أمتها ، ولا يسرق عرق أبنائها الفاسدون والمأجورون.
طوال مرحلة النفي ، لم يكن الشيخ بعيدا عن تونس ، بل كان لها ومعها يتلمس جراحها التي كان الطاغية يعمقها يوما إثر يوم ، كما كان مع أمته ، مع فلسطين ومع العراق ومع كل الجراح النازفة ، تجده في كل مناسبة يخطب وينظّر ، تماما كما استفاد من رحلته في الكتابة حول قضايا الإسلام ، وكانت الحرية هي هاجسه الدائم ، فكتب سفره الأجمل "الحريات العامة في الدولة الإسلامية".
هو اليوم يريد دولة الحرية. الدولة التي يختار الناس فيها طبيعة النظام والدستور الذي يحكمهم ، والذي لا يشكّ الشيخ في أنه دستور يستند إلى مرجعية الإسلام بروحه الوسطية المنحازة إلى حرية الإنسان وكرامته. الإسلام بمقاصده المعروفة ، والتي طالما تحدث عنها الشيخ ونّظر لها (حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال).
شخصيا ، عرفت الشيخ راشد عن قرب ، فوجدته رجلا رائعا ونبيلا ، فيه الحكمة والعلم والتقى والزهد ، وهو لذلك كله سيبقى من الرموز الفاعلة في ميدان الدفاع عن قضايا الأمة في كل مكان ، إلى جانب دوره في بناء تونس جديدة عنوانها الحرية والكرامة.(الدستور)