علماء يدعون إلى الحرية وآخرون إلى العبودية

كعادته في المفاصل المهمة من حياة الأمة ، خرج الشيخ العلامة يوسف القرضاوي عبر فضائية الجزيرة ليعلق على الانتفاضة الشعبية في مصر ، فكان كلامه حاسما ورائعا في الآن نفسه ، أكان منه ما توجه إلى الرئيس المصري ، أم الذي وجهه إلى الشعب المصري البطل.
ففي حديثه إلى الرئيس المصري قال الشيخ: "ارحل يا مبارك إن كان في قلبك مثقال ذرة من رحمة أو في رأسك ذرة من تفكير" ، مضيفا إنه إذا كان الحكم غنما فتكفيك ثلاثون سنة ، وإن كان غرما فالثلاثون تكفيك أيضا.
وذهب الشيخ إلى أن مبارك لم يفهم رسالة الشعب وخرج بخطاب يشي بأنه لا يحس بما يجري ، فهو "في عالم غير عالمنا ، ولا يحس بالجوعى ولا بالجرحى" ، معتبرا أن حل الحكومة بلا فائدة ، والأصل أن يكون الموقف هو حل مجلسي الشعب والشورى وإلغاء قانون الطوارىء.
وحيا الشيخ في المقابل الشعب المصري على انتفاضته المباركة التي كانت سلمية تطالب بالحياة الكريمة واللقمة الحلال ، لكنه فوجىء بالرصاص الحي من قبل قوات الأمن ، وأكد أن المتظاهرين الحقيقيين لم يشاركوا في النهب والسلب.
في مصر أيضا ، أصدر عدد من العلماء والمفكرين يتصدرهم الدكتور محمد عمارة بيانا يذهب في ذات الاتجاه الذي ذهب إليه الشيخ القرضاوي ، تماما كما فعل آخرون من العالم العربي والإسلامي.
في المقابل انطلق بعض المحسوبين على العلم ، وتبني منهج السلف الصالح في عدد من الدول العربية ، انطلقوا في اتجاه مغاير لا صلة له بطموحات الجماهير ، إذ صنفوا ما يجري على أنه خروج على ولاة الأمر ، وأحيانا فتنة ينبغي اعتزالها ، وسمعنا بعضهم يخصص الخطب للتذكير بحكاية الخوارج ، في ربط غبي لا صلة له البتة بالواقع ولا بالتاريخ ، اللهم إلا إذا كان الرئيس المصري ، فضلا عن صاحبه بن زين العابدين بن علي هو سيدنا علي بن أبي طالب (لو انتصر الخوارج وصاروا ولاة الأمر ، فسيكون من الواجب طاعتهم وعدم انتقادهم في العلن ما أذنوا بالصلاة.. هل في هذا الكلام منطق بالله عليكم؟،).
لا حاجة إلى القول إن كثيرا ممن ردوا على هذا الفهم السقيم قبل هذه القضية وبعدها ينتمون إلى ذات التيار السلفي ، ولكن بفهم أكثر عمقا للنصوص ولحركة الواقع والتاريخ ، فضلا عن علماء آخرين من مدارس فكرية أخرى ، وجميعهم أكدوا قصر نظر أولئك القوم ، وانتماءهم الحقيقي إلى مدرسة مجاملة الظلم والظالمين لحسابات شخصية ، وأحيانا حزبية ، حتى لو زعموا رفض الحزبية ، لأن واقع الحال يؤكد أنهم الأكثر حزبية على الإطلاق بين التيارات الإسلامية ، حتى لو لم تكن لهم خلايا أو أسر أو حلقات بالطرق المعروفة عند الآخرين.
أمثال هؤلاء يحولون الدين إلى أفيون بالفعل ، ويعبّدون الناس للظالمين ، الأمر الذي يشوه دينا عظيما جاء دعوة لحرية البشر وسعادتهم في الدنيا قبل الآخرة. إذ هل يعقل أن رب العالمين الذي يقول "والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون" ، "لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم" ، ونبيّه الذي يقول "لتأخذن على يد الظالم ، ولتأطرنه على الحق أطرا" ، "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر" ، هل يعقل أن يكون هذا الدين دعوة للخنوع ولو جلدت الظهور وسلبت الأموال؟،
لدينا الكثير في سياق الرد على ذلك المنطق السقيم ، لكن المقام لا يتسع ، ودافعنا هو الحزن على دين يشوهه هؤلاء بتلك الطريقة المثيرة للقهر ، وبالطبع حين يخدمون الظلم والظالمين ، ويوجهون سهامهم نحو من خرجوا إلى الشوارع يصرخون ضد الظلم والفساد ، بل ضد العبث بدين الله أيضا.
لولا أن قلة من الناس ينخدعون بهؤلاء عندما يقولون لهم قال رسول الله (يختارون من النصوص ما يناسب رغبتهم) ، لما استحقوا منا أي ذكر ، والأسوأ حين تبادر تلك القلة إلى الجهر برأيها لتخذيل الجماهير المنتفضة ضد الظلم. يبقى أن غالبية الأمة تدرك أن هذا المنطق لا يمت إلى دين الله العظيم بصلة ، ولذلك ستتواصل الثورات على الظلم والظالمين حتى يأذن الله بتغيير هذا الواقع ، ويكون لهذه الأمة مكانها اللائق تحت الشمس كما كان من قبل.(الدستور)