لا تنازعوا فتفشلوا

بعد أن فشلت كل الأساليب الأمنية والقمعية والإكراهية في ترهيب الثورة، وبرغم الكلفة الإنسانية العالية، إلاّ أنّ أبناء التحرير وملايين المصريين صمدوا وتحصّنوا بوعي سياسي جديد يؤمن أن الطريق إلى المستقبل يمر عبر ثورة الديمقراطية الحالية.
اليوم، الخشية الحقيقية على الثورة تأتي من باب أخطر وأكثر تعقيداً ألا وهو السياسة، سواء من زاوية عدم وجود مرجعية موحّدة لهذه الجموع الكبيرة، والطبيعة الهلامية لمجموعات المناضلين الجدد، أو تفنن النظام في استبقاء وجوده وأدواته من خلال اختراع الحيل السياسية، وشق صف أبناء الثورة، ودخول المجتمع الدولي على الخط لضمان بقاء النظام الحالي لكن في صيغة جديدة، حمايةً للمصالح الغربية.
بالطبع، أهل مكّة أدرى بشعابها، ولا أعتقد أنّ هنالك اليوم من يملك أن ينظّر على المصريين، فهم في عيون العالم أصبحوا أساتذة الوعي والإرادة، وفيهم نخب على مستوى رفيع وعالٍ من السياسة والحكمة والحنكة. لكن ما يقلق هو تلك الاختلافات التي بدأت تطفو على السطح، وهي طبيعية إذا لم تتحوّل إلى صراع على "من يتحدث باسم الثورة"، فعند ذلك، ستتقزّم المنجزات وسقوف الحوار مع "الصيغة الجديدة" للنظام البوليسي هناك.
أقول هذا، لأنّنا بدأنا بالأمس نسمع لغة مختلفة عن تلك التي كنا نسمعها في الأيام السابقة، بين القوى السياسية نفسها. فهنالك لجان من الحكماء تتحدث مع النظام، في مقابل من يشكك في شرعيتها وتمثيلها، بل ويسارع إلى اتهامها.
وبالأمس، تراجع الإخوان المسلمون عن شرط الحوار برحيل الرئيس مبارك، وأعلنوا استعدادهم لبدء الاتصالات بالحكومة، للتعرف على رؤيتها للمرحلة المقبلة، فيما تزال قوى أخرى تتمسّك بشرط الرحيل.
من الطبيعي أن يكون هنالك اختلاف حول المرحلة المقبلة، وأن تتعدد وجهات النظر، لكن ما يحدث يشي بما هو أكبر من ذلك، ما يجعلنا نضع أيدينا على قلوبنا، بأن تبدأ من الآن الحسابات الشخصية والحزبية والفصائلية، قبل إتمام المنجز، وهو ضمان وجود نظام ديمقراطي جديد، يترافق فيه الإصلاح الدستوري والسياسي مع الإصلاح الأمني، وتقديم كشف حساب سياسي عن المرحلة السابقة، حتى تطوى صفحتها تماماً، بكل رموزها الفاسدين.
ما يعزز قلقنا أنّ مراكز التفكير الاستراتيجي في واشنطن وتل أبيب والعواصم الغربية بدأت تتحرك بسرعة وتقدّم وصفاتها لحماية النظام من الانهيار، وجرف نهر الثورة عن مساره الحالي إلى مسارب فرعية تأكل المنجز الحالي ورصيده الروحي والفكري لدى المصريين، مع مرور الوقت والإغراق في التفاصيل والدهاليز المرهقة.
مصر، بالنسبة للغرب، ليست تونس، وسيستنفد مجهوداته وخططه كافة لضمان وجود نظام يلتزم بالرهانات والسياسات الخارجية الحالية لمصر، بما يخدم إسرائيل التي أطلقت صفّارات الإنذار والترهيب والتهديد من أي نظام جديد يعيد هيكلة دور مصر وخياراتها الاستراتيجية، ولا يجر وراءه فساداً يثقل كاهله ولا يحمل على كتفه عقدة التوريث، بما يجعله أسيراً للوصاية والإملاءات الغربية.
مرّة أخرى، أهل مكّة أدرى بشعابها، سواء قرر حكماء الثورة وشبابها السير في طريق الحوار وصولاً إلى صفقة تاريخية تضمن تغييراً بنيوياً كاملاً في طبيعة النظام، أو الاستمرار في النضال السلمي الجماهيري إلى حين إسقاطه، لكن الأهم ألا يختلفوا فتذهب ريحهم ويطمئن خصومهم، ويضعفوا أمل الشعوب العربية بربيع ديمقراطي.
(الغد)