في (نص البلد)

انطلاقا من شارع الرينبو ببلاطه المصفوف حديثا بشكل يجعل عبوره سيرا على الأقدام متعة خاصة ترغب في استبقائها طويلا، خصوصا إذا نثت غيمة سخية على نحو مباغت بضع قطرات حنونات علقت بعضها بأطراف ثيابك، تتجول باسترخاء صاحب مكان، حيث المقاهي ذات الطابع التراثي الأنيق تتوزع على جنباته تتيح لروادها إطلالة استثنائية على البلد وتجتذب الشباب والصبايا في استعادة ضرورية لملامح ماض جميل، تنتشر على أطرافه البيوت العتيقة بشحوب حجارتها الأخاذ وبمعمارها المميز وحدائقها المكتظة بأشجار الليمون الحبلى بالحبات الصفراء، متدلية خارج الأسوار الواطئة بإغواء تصعب مقاومته، تغريك الليمونات المكتنزنات لالتقاط إحداها، مطمئنا إلى مشروعية تلك السرقة البريئة كي يتسنى لحواسك المتعطشة للجمال أن تشرب رحيقها النفاذ الكفيل بنفض أعراض الكآبة والضجر عن روحك المثقلة بالعادي والمتكرر والمألوف.
مرورا في شارع خرفان العريق، بشرفات بيوته المتلاصقة وحبال الغسيل المنصوبة محملة بالثياب المستعصية على الجفاف جراء آخر شتوة، وأولاد الحي يودعون بصخب جميل آخر أيام الإجازة المدرسية، هبوطا بدرج رقم واحد أو كما أفاد أحد سكان المنطقة "درج الزعامطة "وهو واحد من تلك الأدراج العمانية السحرية الكثيرة التي تقودك كما لو كنت مسيرا مأخوذا بالإطلالة البديعة لتجد نفسك في (نص البلد)، تحديدا في قلب شارع طلال من دون أن تستقل أي سيارة من أي نوع، هكذا وبلا تمهيد كبير تجد نفسك منخرطا بشكل عفوي في إيقاع الحياة، تغذ الخطى مع العابرين، من دون أن يكون لك هدف محدد سوى التقاط أنفاسك ونيل قسط من الراحة التي أصبحت بعيدة المنال إثر جلوسك ساعات طوال أمام شاشة التلفزيون متابعا بقلب واجف ما يحدث في ميدان التحرير، تتوق كما الملايين إلى إشراق لحظة عدالة وحق وحرية، تم تسديد ثمنها الباهظ سلفا وصعدت في سبيل نيلها أرواح شهداء في عمر (ورد الجناين ) ماتزال صفحاتهم على (الفيس بوك) حافلة بالبريد الذي لم يقرأ بعد!
تضبط نفسك متلبسا بالأمل رغم كل شيء، تحس بالألفة مع الأماكن والوجوه، تتذكر مدى عشقك لأمك عمان، توشك على الاعتذار لها عن إغفالك إرهاف السمع أحيانا لدقات قلبها النابض حبا، يمنحك مشوار إلى البلد حالة من البهجة المجانية، حين يقترح عليك أحد الباعة تذوق كمشة زيتون بلقاوية بمرارتها الشهية، يصر أن تشتري بعضا منها؛ لأنك لن تجد أفضل منها في كل الأردن!، ولا يأبه لتبريرك بأنك نسيت أن تحمل نقودا، يقول لك بكل طيبة ومن دون سابق معرفة (مش مهم بتدفع بعدين!) تستعيد ثقتك بالدنيا وتتأكد أنها (لسه بخير)، تتأمل بفرح غامر عمانك الأغلى تفيض بالتفاصيل وتتدفق حيوية وشبابا، يخطر لك أن تتكئ على أحد جدرانها الشاهقة تتخفف من تعبك كله غير عابئ بنظرات المارة وتهمس لها بحب درويشي خالص (هذي الأرض لي!)
(الغد)