مؤنس الرزاز

في العام التاسع على الغياب أصبح مؤنس الرزاز جدا لصبي يحمل اسمه، غير أنه ومثل عهده دائما كرجل غير متوقع يصعب التنبؤ بخطواته المقبلة كان فاجأ الكل ورحل بصمت وهدوء، وفوت على جميع الأصدقاء فرصة ثمينة للتندر على تبعات منصبه الجديد كجد وقور يتسم بالحكمة والرزانة، كما أنه حرمهم إلى الأبد من ممارسة الشماتة والتشفي البريء ببلوغه من العمر عتيا وثبوت واقعة كهولته التي أصبحت رسمية بقدوم مؤنس الصغير.
على الأغلب أنه كان سيمنحهم الكثير من المبررات كي يتمادوا في الأمر، ولسوف يسرد عليهم بأسلوبه الخاص كروائي حكاء من طراز رفيع يتميز بحس سخرية لاذع، الكثير من المواقف المضحكة التي سوف تثبت بما لا يقبل الشك إخفاقه الذريع في لعب هذا الدور الصعب على رجل (كثير الغلبة) مثله، ظل محتفظا بطفولته حتى الرمق الأخير متوحدا مستوحشا كذئب نبيل مستغنيا زاهدا مستجيبا لقدر إغريقي غامض جعل من حياته الخاطفة مسرحا لعذابات متلاحقة، (جدو مؤنس) كان سيرتبك حتما بهذه الصفة التي ستبدو غريبة ومستهجنة بالنسبة له، ولسوف يرفض حتما أن يخاطب بها تلميحا أو تصريحا، قد يقترح على حفيده مؤنس الصغير أن يناديه عمو أو أبو الأنس في أفضل الأحوال، وكان سيخفق كليا في لعب الدور المفترض للجد ضعيف السمع، الفضولي الذي يتوهم الحكمة فلا يتوقف عن تقديم نصائح يظنها ثمينة إلى أحفاد غير مكترثين وينسى أنه يكرر الحكايات نفسها ويغفو بين حكاية وأخرى متدثرا بقبعة صوفية متذمرا بين الحين والآخر من وجع شديد ألم بمفاصله المتهالكة ولا بد أن يتحسر في كل مناسبة على الشباب الذي ولى إلى غير رجعة.
تمكن مؤنس بكل حنكة ودهاء من تجنب ذلك كله، (واختصر الشر) وذهب سائرا على قدميه نحو مستشفى لوزميلا وغاب في غفوة طوعية سعى إليها طوال حياته، مرددا مقولة الإمام علي الأثيرة لديه دائما (يا دنيا غري غيري) مخلفا رصيدا كبيرا من أصدقاء يمثلون مختلف النماذج الإنسانية المتباينة في كل شيء ولكن المتفقة بإجماع غير مسبوق على فكرة حب ذلك المؤنس رغم الوحشة الذي ترك رحيله الصادم حسرة لازمت قلوب الجميع، شيعوه إلى سحاب ومكث الحزن طويلا في جبل اللويبدة وفي شوارع عمان التي أحبها أكثر من أي شيء وكرس معظم منجزه الروائي للتعشق فيها، انتصر لها واحتفى بها كمكان أصيل، كما كتب في رواية الشظايا والفسيفساء "يصر كثير من الناس على اعتبارها مدينة بلا أصل، فأنت كركي تسكن عمان أو نابلسي تعيش فيها وهي الصبية اليتيمة المقطوعة من شجرة مثل حورية خارقة في حكاية خرافية تشرح النفس وتثير القلوب".
يطل علينا مؤنس ذلك العماني حتى أخمص الروح، العروبي القومي الأصيل رغم كل الخيبات، لتغدو ذكرى رحيله التاسعة فسحة ضرورية تتيح لنا استعادة ذلك التوهج الأخاذ في روحه الساطعة مثل شمس ولندرك مقدار الفراغ الذي حل بنا حين قرر الغياب.
سلام عليك يا مؤنس وأنت تقطن في السكينة كما ابتغيت، وعمرا مديدا واعدا بالفرح لمؤنس الصغير.
(الغد)