الصلح الإخواني الناصري في ميدان التحرير

خطفت المصالحة الكبرى بين الأقباط والمسلمين في ميدان التحرير الأضواء من مصالحة الناصريين والإسلاميين. ولتلك المصالحات بين الطوائف والاتجاهات والأحزاب والأجيال امتداداتها خارج حدود ميدان التحرير الذي صار مركزا للعالم العربي لا لمدينة القاهرة. ويخطئ من يعتقد أن ما أنجز من مصالحات هو ابن لحظة عاطفية سرعان ما تتبدد. بل هي لحظة تاريخية لها ما بعدها استجمعت فيها الأمة عافيتها ووعيها ونهضت من كبوتها.
ظلم الإسلاميون عبدالناصر، تماما كما ظلمهم. فالخلاف السياسي معه على السلطة تحول إلى إدانة كاملة لتجربته القومية الرائدة. لم تكن التجربة الناصرية ديمقراطية. ولم تكن أيامها الديمقراطية كلمة تهم كثيرا من المفكرين ناهيك عن الجماهير. كانت مرحلة تحرر من الاستعمار وبناء الدولة الوطنية المستقلة على يد الثوار الذين يبسطون العدالة والاشتراكية على الناس، ويبنون الصناعات الوطنية ويؤممون الأراضي الزراعية وينصفون العامل والفلاح، وينشرون التعليم المجاني.
إن قيادات الإخوان، وجيل الصحوة في مصر الذي ولد من رحم الجامعات المصرية ما كان ليرى النور لولا السياسة التعليمية لجمال عبدالناصر. في المقابل لا يمكن التقليل من حجم الظلم التاريخي الذي وقع على الجماعة. فقد أعدم خيرة قيادتها في مطلع عهد عبدالناصر، سواء صحّت محاولة اغتياله أم كانت مسرحية أم اختراقا للنظام الخاص للإخوان الذي كان عبدالناصر عضوا فيه، فإن ذلك لا يسوغ إعدام المفكر عبدالقادر عودة صاحب موسوعة "التشريع الجنائي في الإسلام" و"الإسلام وأوضاعنا القانونية"، ولا إعدام شيخ مجاهديهم في فلسطين محمد فرغلي، ذلك الذي عبر عن سمو أخلاقي قل نظيره عندما اعتلى حبل المشنقة وقال "اللهم اغفر لي ولمن ظلمني".
وما كادت محنة الخمسينيات تنتهي حتى ألقت محنة الستينيات ظلالا أكثر قتامة عندما أعدم المفكر سيد قطب. هو الذي كان منظر ثورة يوليو في الإذاعة المصرية قبل الفراق بين عبد الناصر والإخوان. وفي محاكمة سيد قطب كان المرشد الحالي للجماعة محمد بديع من بين الشباب المتهمين. ولم يفرج عن معتقلي الإخوان إلا بعد وفاة عبد الناصر. في الأثناء كانت سياسات عبدالناصر الوحدوية والاستقلالية تتطابق مع برنامج الإخوان. فمقابل الوحدة مع سورية حل الإخوان المسلمون في سورية تنظيمهم، إذ كان من شروط الوحدة (تخيل!) حل الأحزاب السياسية. ورفض الإخوان التوقيع على بيان الانفصال الذي وقع عليه بعثيون وقوميون.
في الصراع مع عبدالناصر، قلل سيد قطب من أهمية العروبة لصالح الجماعة الإسلامية. لكن ذلك لم يكن خروجا على الناصرية بقدر ما هو خروج على مبادئ الجماعة التي وثقتها رسائل الإمام البنا في نظرية الدوائر الثلاث والتي أعيد استنساخها في " فلسفة الثورة ". وقال قائلهم "إن العروبة لفظ إن نطقت به فالشرق والضاد والإسلام معناه".
ما كانت الثورة المصرية الثانية لتنجح لولا المصالحات والتسويات الفكرية والسياسية التي تمت على مستوى الفكر والسياسة والممارسة والأهم الميدان. ففيه امتزجت الدماء والدموع. ومقابل تلك التنازلات المتبادلة كانت الثورة ستجهض لولا القطيعة مع نظام مبارك والإصرار على إسقاطه.
(الغد)