كيف ترين قيادتي؟!

نصعدُ السيارة، بالضرورة سأكونُ أمامَ المِقوَد، وأنتِ على يمينه. هاتِ كفكِ اليسرى، بعدما تفرَغُ يُمنايَ من وظيفتها بإدارة المحرِّك. قدمي المرتجفة تضغطُ برفق على "دوَّاسة" البنزين، لتسيرَ السيارة ببطءٍ شديد في شارع مقفر؛ الطريقُ إذن مواتيةٌ للتهوُّر..، أضغطُ بعُنف. تمشي السيارة بجنون، فلا تربطي الحزامَ، ولا تلتزمي بقواعد المرور: قوي قلبكِ نحنُ في أوَّل خطوة خارج القانون!
لا تتردَّدي.. ليس بإمكان السيارة العودة إلى الوراء؛ فالطريق باتجاه واحد، وعلى جانبيه بيوتٌ عائلية مضاءة بأطفال دون العاشرة. لا تنظري إلا لوجهي؛ فشاخصَةٌ متساهلةٌ أنا: تعالي لن أطالبكِ بالتمهُّلِ، أو تخفيف السرعة، فقط عليكِ الانتباه أنَّ قلبي قد يتحوَّلُ إلى طريق غير نافذ أحيانا!
الطريقُ طويلٌ، ولا نهاية قريبة، فاحذري أنْ تزجيه بسرد قصص حبِّكِ المضجرَةِ؛ فقط أصغي بانتباه إلى احتكاك "كنزتي" الصوف بمعطفكِ الجلديِّ، سيُصدرُ همسا تذكّريه جيِّدا، ففي لحظات الصمت الطويلة سيقولُ كل ما أخفقت أغاني المذياع في الوصولِ إليه. اقتربي أكثر؛ فمن الضروريِّ أن يكونَ للحبِّ صوتٌ أبلغ من أثير المذياع!
بماذا ترغبين الآن، وأي كلام يأتي على بالكِ كغيم متمهِِّل؟!
ربَّما تودين قولَ مقتبس شعري، أو عبارة ذائعة عن الحبِّ الذي يُباغِتُنا كفكرة عظيمة أثناء المشي؛ لا أنصحُكِ بذلك، أنا أيضا لن أقولَ شيئا، على الأقل الآن، ونحن في منتصف الطريق، والسيارةُ تواصل سيرها المجنون. في هذه اللحظة تابعي فقط، بخيلاء، انكسارَ الشواخص الحمراء التي ينتصفها خط أبيض، من مرآتكِ الجانبيَّة المصمَّمَة، على غير المعتاد، بأبعاد دقيقة، لتقرأ بوضوح تام أسماء المدن المستجدية مروركِ على جانب واحد من الطريق!
أريدُ مصارحتكِ بأمر ما .. بعد عدةَّ كيلومترات خفيفة كعدَّاد ساعة اليد الرقميَّة، سنصعدُ الجسرَ. لن أخفِّفَ السرعة، أو أقوم بأيِّ حركات لا إرادية تشي بفزعي، بل سأجدها مناسبة، لا تأتي دائما، لننظر إلى الأسفل، ونتأكد أنَّ حبَّنا لم يعد ينتسبُ إلى الأرض!
الناسُ ليسوا هنا؛ ثمة تواطؤ "شعبي" لأنْ يذهبَ حبنا إلى فراغ مريب. حتى السكون محظور، والتجول قربنا بإشعار "رسمي" هو بمثابة "إزعاج عشاق". إذن كل الأمور مهيَّأة لأن نبلغ "آخر المشوار"؛ لكنني سأقفُ الآن في منتصف الطريق تماما وأسألكِ بكبرياء زائف: هل تثقين ببوصلة قلبي، وبصدق أجيبيني، من دون محاولاتكِ الطيبة لرفع معنوياتي، عن سؤالي المتوتر: "كيف تريْن قيادتي"؟!
ينتابني قلقٌ خفيفٌ كدمع الفرح؛ فقلبي مرَّ من كلِّ الطرق الصحراوية، وكان دائما يؤوبُ مكسورا ومغبرا مثل فرس تركضُ خارج السباق. لكن وكفي تتبللُ بماء يديكِ، فإنَّ الأمرَ يبدو مختلفا، وأشعرُ ببعض الاطمئنان؛ فلا يهمني الإيابُ الخاسرُ، ولا أخشى انتهاء الطريق. بل أتمنى لو آتيه كفرس مغرورة عن خط النهاية. قد تقولين إنَّ قيادتي متهوِّرة. نعم هي كذلك يا حبيبتي؛ فالحبُّ سيْرٌ مجنونٌ خارج المسرب!
لكنني واثقٌ من شيء واحد، رغم ما يبدو عليَّ من ارتباك أمام الطريق لما أصبحت مشرعة على أكثر من اتجاه..، واثقٌ أنَّ مشينا جَسُورٌ؛ ألا يكفي أننا تركنا كلَّ شواخص المرور الحمراء وراءَنا، وأنَّ الإشارات الصارمة أضاءت لنا اللون البرتقالي بشكل متقطع، يوحي أنَّها تتفهمُ معنى أنْ يمضي عاشقان إلى الأمام، وكلُّ اللوحات الإرشادية الزرقاء تحذرهما أنه تبقى على المنطقة الأولى بعد حدود الحب 5 كم فقط!
آلاف الأمتار ونختارُ قدرا من أصعب الأقدار. أعدكِ لن أستغل بذكورية مستقوية أنَّني أمسكُ جيِّدا بمقود السيارة؛ تشبثي به يعني أنني سائق غشيم، وقيادتي مرتبكة، وهذا اعترافٌ متأخرٌ جدا، فقد حصل ما حصل، وها نحن بانتظار شكل الطريق وراء الأفق المغلق.
والآن: "كيف ترين قيادتي"؟!
لا تضحكي وتبكي معا كسخرية مُرَّة، قولي رأيكِ بصراحة مطلقة؛ وعلى أيِّ حال لن يُغيِّر شيئا؛ فقد انتهى وقود السيارة، والطريقُ ذاتها صارت ترابية بعدما انتهت صلاحيَّة الإسفلت، والليل أفرط في عتمته، وعلينا أن نمشي مشيا. تقدَّمي أمامي؛ ففي أول خطوة بعد الحبِّ لا تصلح قيادة الرجل!
(الغد)