حين تسقط الأقنعة

وصفَ الفنان دريد لحام نشر مقطع فيديو منزلي يجمعه بمعمر القذافي، اصطياداً في الماء العكر، ومحاولة مكشوفة للنيل من تاريخه النضالي المشرف كما يتوهم! كونه قدم جملة أعمال مسرحية على سوية عالية من الناحية الفنية، سواء على مستوى الكلمة والإخراج والتمثيل طرب الشارع العربي لها آنذاك. غير أنها كانت في جوهرها أعمالا تنفيسية تلعب على وجدان الشارع، الظاهرُ فيها أنها تمارس نقدا لاذعا للسلطة، في حين أنها تبطن ارتماء من نوع مختلف في أحضان تلك السلطة!
وشرع لحام في تبرير ظروف وملابسات سهرة الأنس والطرب والتغني ببطولة ذلك الأفّاق البذيء المبتذل، شكلا ومضمونا، غريب الأطوار المفتون بذاته حد الغباء المطلق. وقد اكتسحت تلك اللقطات المؤسفة الفضاء الإلكتروني في الأيام الأخيرة، وهي تُظهر فنانات وفنانين في السهرة "البيتوتية" نفسها من بينهم وجوه تلفزيونية معروفة، المفترض أن لهم وزنا بحكم التجربة والخبرة والحضور المكثف في الدراما السورية والعربية، تصفّق بطرب مصاحبةً لصوت المطرب الشعبي الشهير علي الديك مرددا مدائح فجة لـ"الزعيم" الذي كان مأخوذاً بمديح الظل غير العالي!
وأكد لحام أن السهرة تمت بناء على طلب مباشر وصريح من "الزعيم"، الآيل إلى السقوط في أي لحظة كما تتمنى الإنسانية جمعاء، ولم يكن فنانُ الشعب "دريد لحام" هو الوحيد في سياق الاحتفاء بالطغاة والتطبيل لهم، فثمة أسماء كثيرة في عالم الثقافة والفن والنقد من شهود الزور، تسابقوا لارتكاب قصائد "رديئة" ذليلة، ودراسات موسعة وكتب مؤلفة للإحاطة بفكر "العقيد"، ومنها من تهافت على زيارة بلاط "خيمته" أينما حل، ليمنحوه صك اعتراف كونه المفكر الأوحد والقاص الأعلى قامة والمحلل الخطير! ما يجعل الكفر بهم حلالاً بيّناً! سيما وقد بدأوا يتنصلون الواحد تلو الآخر مما اقترفت أيديهم، بل وينتقلون بصفاقة إلى مصاف الضحايا، وكأن القائد الملهم بالدم والفتك كان "عن جَد" رجلا سويا ومفكرا فذا وسياسيا محنكا وقاصا مبدعا، غير أنه جُنّ فجأة!
أما الزعيم، مع وقف التنفيذ، عادل إمام، فكان أول المهاجمين وأشرسهم ضد شبان ميدان التحرير، واصفا إياهم بـ"قلة الأدب"، وقد حاول التراجع في ما بعد، غير أن ذلك التراجع الاضطراري لم يزد الجماهير التي أحبته ذات زمن، إلا غضبا واحتقارا، فيما غردت سماح أنور التي لم تتميز بأي موهبة درامية تستحق الالتفات رغم نجوميتها في مرحلة إفلاس سينمائية، فصرّحت، وعلى الهواء مباشرة، في أنها لا تمانع في حرق أولئك الشبان المعتصمين بالكاز، وحاولت هي الأخرى التراجع عن "عارها وفضيحتها"، متذرعة بحجج مضحكة وساذجة قائلة إنها: "ماكانتش فاهمة!".
قائمة المواقف المخزية لفنانين ومثقفين وشخصيات عامة تطول، وتظل تبعث على الحزن والأسى، وتسهم في دفع الجمهور لازدراء المثقفين والفنانين عموما دون تمييز بين مواقفهم. بينما برزت أسماء شجاعة لم تتردد أو تنتظر رجحان الكفّة لتحدد موقفها النهائي على أساسها، فكان خالد يوسف وخالد الصاوي وعمرو واكد ومحمود سعد وشريهان وتيسير فهمي، وغيرهم كثيرون ممن تصدروا المشهد الثوري وكانوا في طليعة المتظاهرين.
في الخلاصة، فإن الفن موقف، والفنان بدوره مطالَب بأن يكون ضمير جمهوره، وأن يعبّر عن نبضه. وفي الأحداث المفصلية التي لا مجال فيها لـ"الرمادي"، لا بد أن يسقط القناع عن القناع، وعندئذ على الذين اختاروا الانحياز للظلم أن يدفعوا الثمن بعد أن تحاكمهم الجماهير التي آمنت بهم من دون وجه حق.
(الغد)