الشقاء .. في خطر!

استوقفني هذا العنوان للشاعر الجزائري مالك حداد قبل زمن ، لأنه ينتمي الى رؤى تبشر بقطع المتواليات التقليدية ، ولا يشبهه الا ما كتبه اللبناني امين نخلة وهو مديح المطر ثم ما كتبه محمود درويش وهو مديح الظل العالي.. فالمديح كان لقرون خلت مطوبا للسلطان أو أولياء النعم ، وأعود الى مالك حداد الذي قال لأول مرة بأن ما هو مهدد بالخطر هو الشقاء وليس الاستقرار أو الفرح ، مالك حداد.. الذي أتقن اللغة الفرنسية اكثر من اهلها قال عبارته الشهيرة وهي ان اللغة الفرنسية منفاه لأن العربية هي وطنه وهو ايضا الذي كان يسخر من الشعراء والادباء الذين يزهون بما حصلوا عليه من شهادات اكاديمية.. ومن اقواله الشهيرة في هذا السياق ما جاء رداً على مذيعة سألته عن دراسته قال.. اسألي العصفور من اي معهد موسيقى تخرج ، وابحثي تحت جناحه الصغيرة عن النوتة التي يعزف عليها،
قبل فترة ليست طويلة كان الرجاء العربي في خطر ، لأن تعاقب نوبات الاحباط أوشك ان يفرغ العربي من كل مضمونه الانساني والقومي ، ولولا ما يحدث بين موت وآخر من قيامات لتحول هذا العربي الى عدمي لا يعنيه شيء أبعد من أنفه.
ما من أحد يزعم الآن ان العربي تعافى ورمى العكاز وأصبح يعدو كالغزال أو الفهد ، لكن ثمة قرائن عديدة تجزم بأن الباترياك ليس في ربيعه ، وان الشقاء فقد الكثير من بوليصات التأمين التي حصل عليها من ثالوث الجهل والفقر والأنيميات على اختلاف أنواعها ودرجاتها،
ان وطنا يعج بكل هذه الجامعات والمؤسسات المدنية والكائنات الحالمة لا يمكن له ان يبقى اسطبلا بسعة قارة ، ووحدة التعداد الديمغرافي التي كانت "نسمة" في الطريق لأن تصبح مواطنا ، فما من رعايا في هذه الالفية وما من أحد يملك الحق لأن يفكر عن أحد أو يحلم نيابة عنه..
محاصيل تاريخية عديدة أصبحت الآن في خطر وليس الشقاء وحده ، لأن الاسئلة التي تعتقت وتعفنت بسبب مراوحتها تحولت الى مساءلات ، والاخرس الصامت عن الحق نطق ، رغم انه بلغ من العمر عتياً ، فالناس يتعلمون الكلام في الثالثة او الرابعة من العمر.. لكنه كلام منزوع الفاعلية،
ونحن لسنا من السذاجة العاطفية أو الفكرية بحيث ننتظر حصاد الدم في الربيع القادم فالتاريخ ابطأ من الأرانب بكثير ، وما ترسب من صدأ على المفاصل لم تسلم منه حتى عقارب الساعات ، فتخثر الزمن وأوشك ان يتوقف..
وأذكر ان صديقا من الفنانين التشكيليين العرب أهداني ذات يوم لوحة هي ساعة مقلوعة العقارب ، وأظن ان هذا الصديق قد يعيد الى ساعته عقربيها لأن من تماوتوا كالبعير بدأ النبض يسري في عروقهم ، فما يحدث يحرك حتى شواهد القبور.
ولكي لا نكون أسرى التهوين لما يجري أو التهويل فان ما نراه وما نسمعه وما نستشعره في العمق ليس وليد اللحظة ، ورغم انه نتاج لما مضى ، الا انه سوف يصبح على الفور مقدمات لما سوف يحدث ، والاستغراق أو الانتشاء بهذه اللحظات قد يؤدي الى اختطاف الحراك ، وبالتالي تهجير شحنات الغضب من سياق الى آخر..
ولم يكن يخطر ببال أحد ان ذلك الصمت المشحون الترقب والريبة هو صمت ما قبل الاعصار بقليل..
(الدستور)