ديمقراطية الاجتثاث!

أدخلت التجربة العراقية الى معجمنا السياسي مصطلح الاجتثاث وهي اقسى مفردة للتعبير عن قطع الدابر والخلع من الجذور ، وقد لا يكون عراق ما بعد الاحتلال سباقا الى هذا ، ففي أمكنة اخرى من العالم حدثت ردود افعال بالغة القوة والعنف ، ضد فترات من الحكم ، نذكر مثلا ان الروس طالبوا بخلع السكك الحديدية لأنها انشئت في عهد ستالين ، وهناك من همسوا باذن عبدالناصر غداة ثورة يوليو طالبين منه منع أم كلثوم من الغناء ، لأنها غنت للملك فاروق ما قبل الثورة ، وكان الرجل حصيفا وواسع الافق عندما أجابهم لنخلع الاهرام اذن لأنها شيدت قبل ثورة يوليو،
ان من حق الشعوب ان تعيش فترات من ردود الافعال العنيفة خصوصا اذا كان الارث باهظا والمرارات عميقة ، لكن الفارق بين هاجس التغيير البناء وبين فلسفة الثأر والانتقام كبير جدا ، والانشغال بتصفية الحسابات فقط قد يؤدي الى ارتكاب كبرى في عملية التغيير ، لان الثورات تنشغل بالغد اكثر مما تنهمك في اجترار مرارات الأمس وليس معنى ذلك ان الناس مطالبين بالعفو عما مضى ، فثمة جرائم وانتهاكات وتجاوزات للقوانين والاعراف ولكل الحدود يجب ان تتعرض لمساءلات قانونية واخلاقية،
نعرف مثلا ان هناك مثقفين فرنسيين خجلوا واعتذروا عن حصول لوبان اليميني والعرقي على ما يقارب العشرين بالمائة من اصوات الناخبين ، لأنه كما قال لي احدهم يجب ألا يظفر بأكثر من واحد الى ثلاثة بالمائة فقط من الاصوات وهي نسبة الشواذ في اي مجتمع،
ما نخشاه هو ان يدشن مصطلح الاجتثاث الذي ادخل الى معاجمنا السياسية بعد احتلال العراق حقبة اخرى من الديكتاتوريات المضادة فنحن لا نحلم على الاطلاق باستبدال شهاب الدين بأخيه أو ابن عمه أو من هو أقسى منه ، واذا كانت الراديكالية تزدهر في مجتمعات ناءت بأنظمة شمولية وباترياركية حرمتها من حق البلوغ أو حتى الفطام فان الراديكالية تتعايش بقدر او بآخر مع سواها من التيارات والاتجاهات الفكرية ، وبدون ذلك تكون الديمقراطية ناقصة،
وهناك سؤال كان سارتر يطرحه على مثقفي فرنسا في خمسينات القرن الماضي هو ما الذي يتوجب على الديمقراطيين ان يفعلوه بأعداء الديمقراطية؟ ونادرا ما ظفر هذا الفيلسوف باجابة شافية من زملائه الفرنسيين فالديمقراطية تتغذى حتى من نقصانها واي تأطير لها هو بمثابة الشروع في وضع نهاية لها،
ان مصطلح الاجتثاث الذي لا يلجأ اليه حتى الاطباء الا في الحالات المتقدمة من الامراض الخبيثة لا يليق بالمعجم السياسي ، خشية من ان تترسخ لدينا أعراف اضافية بحيث يتولى كل طرف الدعوة الى اجتثاث خصمه ، والارجح ان ما يغذي ثقافة الاجتثاث هو منطق الوصاية ، الذي يدفع البعض الى الاعتقاد بأنهم يحتكرون الصواب ، وقد برهنت ثقافة الاجتثاث هذه انها غير صالحة على المدى الأبعد ، لأنها تنتج مجددا خصوما سريين ينتظرون دورهم ذات يوم في الاجتثاث ايضا،،
(الدستور)