ليبيا: أميركا ضد الثورة

لا أحد يشكك في التردد الأميركي للتدخل في ليبيا، أو حتى التدخل وفق الحدود المطروحة والمتعلقة بالحظر الجوي. ورغم أنني ضد كل "تدخل" إمبريالي، أميركي أو غير أميركي، لأنني أعتقد أنه لا يتحقق إلا لخدمة مصالح الطغم المالية التي تهيمن على العالم، إلا أنني سوف أتلمس هنا طبيعة الموقف الأميركي بالذات، لفهم هذا التردد، أو لمعرفة المحركات التي يخضع لها هذا الموقف. المسألة بالتالي تتعلق بتحليل منطق التفكير الأميركي.
أولاً، يمكن أن ننطلق من "بديهية" باتت اضحة، وهي أن الظروف الآن، أي بعد الانتفاضات في تونس ومصر وليبيا اليمن والعراق غيرها، هي ليست الظروف العام 2003 حين جرى احتلال العراق. فقد أوضحت هذه الانتفاضات أن الاحتقان يلازم هؤلاء العرب الذين سحقوا ونهبوا، وفرضت عليهم نظم ديكتاتورية مافياوية، إلى حد الاعتقاد بأنهم لم يعودوا شيئاً، وأنهم باتوا في عداد "الموتى، وأن هذا الاحتقان قد بدأ في الانفجار. ومن ثم، فإن أي تدخل أميركي أو أطلسي، حتى وإن كان بطلب من النظم، سوف يصعّد من الانفجار ويوسّع في انتشاره.
وإذا كانت الولايات المتحدة مرتبكة في التعامل، أو في الرد، على الانفجار في وضعه الراهن، فقد يكون وضعها أصعب بعد تدخلها. لقد فوجئت بالانتفاضات، وهو ما جعلها مرتبكة، وبالتالي لا أظن أنها تعتقد بما سيحدث إذا ما تدخلت، لهذا تخاف من المفاجأة من جديد في وضع لا تعود قادرة على السيطرة عليه.
لكن يمكن أن نتلمس ثانياً، وهذا ما يجب أن يتحصّل على الاهتمام، أن التفاجؤ الأميركي (والصهيوني) من الثورات العربية، والخوف من توسعها وتعمقها، يمكن أن يجعل الولايات المتحدة معنية بهزيمة الثورتين الليبية واليمنية. فهذه مسألة مهمة من أجل وقف هذا "التوسع الأفقي" للانتفاضات. إن الأولوية الأميركية تتمثل في وقف هذا التوسع "السرطاني" للتمرد الشعبي، من أجل التقاط الأنفاس لتحديد السياسات الضرورية التي تبقي السيطرة الإمبريالية الأميركية من خلال الحفاظ عن النظم الموجودة، أو تقديم أقل ما يمكن من "التنازلات" السياسية لموجة من الانتفاض الشعبي الهائل.
إن ما يرعب الولايات المتحدة هو هذا التوسع في الانتفاضات، التي شملت نظماً حليفة عديدة، ويمكن أن تطال نظما أخرى. ولا شك في أن سوء الفهم الذي جعلها تتفاجأ فيما جرى يجعلها تفكر في وقف ما يجري حتى من خلال مجزرة يرتكبها حاكم مثل معمر القذافي. وإذا لم يكن ممكناً انتصاره، فلسوف يجري التدخل من أجل تقسيم ليبيا، وهو ما لعب عليه سيف الإسلام والقذافي ذاته. لكن لا شك في أن كل السياسة التي اتبعتها الولايات المتحدة خلال الأيام الماضية لم تخرج عن المماطلة الضرورية لتحقيق تدمير كبير في كل المدن الليبية أولاً، وانتصار القذافي ثانياً، أو فرض أمر واقع يفضي الى التقسيم ثالثاً.
ليس القذافي من المعادين للولايات المتحدة، وليست الولايات المتحدة في وضع يسمح لها بخسارة القذافي، لكن حينما لا يكون ممكناً ذلك يكون الحل هو السعي إلى التقسيم. وهو الوضع الذي يفرض سيطرتها على النفط الليبي.
لكن لا بد من ملاحظة أن صيرورة الصراع تشير الى أن انتصار المعارضة بات أمراً قريباً. فقوات القذافي لا تستطيع السيطرة على كل المدن الليبية المنتفضة، وكل محاولات السيطرة تفضي الى تلاشي هذه القوات. الأمر الذي يجعل المسألة هي مسألة زمن يوصل إلى عجز القذافي عن إرسال قوات جديدة، لأنه لم يعد يمتلك شيئاً منها.
المؤلم هو أن الانتفاضات التي كانت ترفع شعار "سلمية" ضد قوى القمع التابعة للنظم في تونس ومصر قد أغرقت في الدماء، وتحوّلت الى حرب مسلحة في ليبيا. وتحوّلت إلى "حرب أهلية" لا يمكن أن تحسم من دون موازين قوى عسكرية تتحصل قوى الثورة عليها من أجل مواجهة كتائب مسلحة بأحدث الأسلحة، ومدربة أفضل تدريب هي "كتائب القذافي الأمنية"، التي تشكلت كبديل للجيش.
وانتصار الثورة سوف ينعكس على احتمال نشوء انتفاضات أخرى في أكثر من بلد عربي، مثل الجزائر وسورية.(الغد)