انتفاضة على الحيرة واللامبالاة

المؤكد أن انتفاضة الشباب العربي بأبعادها الديمقراطية والانسانية والمواطنية التي تعبر عنها هذه الانتفاضة قد أزاحت عن الضمير الفردي للانسان العربي أشكال القلق والحيرة واللامبالاة وعجز المواطن العربي عن الانحياز لخياراته الأساسية.
فقبل هذه الانتفاضة كان السؤال المقلق هو الى من تنحاز بين فرقاء هذه الأوطان؟ ، بالهروب من هذا الهلام المفروز الى الوطن ، يستحيل الكلام برمته الى وعظ لا لزوم له.
على الدكة الاولى من موت الانحياز ، يصفعك تكرار البديهيات عن العدو الواحد والواضح. وكأن وضوح العدو هو فقط ما كان يوحد الناس ، ما يعني ان هذه الامة لم تولد الا للحرب ، امة لم تجد وقتا ، طوال تاريخها العريض ، تنتج فيه حياتها المدنية ، وتبدع فيه حضارتها.
على هذه الدكة ، لا ابتكارات ولا بدائل ، سوى المجابهة والمواجهة ، فلا شيء تغير في هذا الكون ، والتطورات تقضي بالتكيف مع متغيرات تحيل المصائر الى فراغ. لا شيء سوى التحدي. ثقافة من التحدي المفرط ، والفائض ، تدفع العقل قسرا ، الى الذهاب الى مخدع الكسل ، كي لا نقول النوم ، او البحث عن دكة اخرى.
في الدكة الاخرى من الانحياز تكف الاشياء التي كانت تتكرر عن التكرار ، فتشتعل الرغبات العارمة بتجديد وتأييد وتكرار الدوران ، تجديد يصطدم ، اول ما يصطدم ، بدكة الاخر ، الذي تحول من شريك الى خصم ، ومنه بسرعة الى عدو ، فيكفّ الوطن عن كونه وطنا.
هما دكتا موت على هيئة مقيدة. بهما ، وفيهما ، تُستنزف طاقة الافراد والجماعات على العيش. نزف يستمر ، في العادة حتى اقصاه ، وان توقف ، لسبب ما ، يكتشف الجميع ان الاشياء لم تعد كما كانت ، وان المفاهيم والافعال والقيم فقدت الكثير من دلالاتها الحسية والرمزية.
هكذا تموت الجماعة ، وتختفي ، وهكذا تموت ثقافة الجماعة ، وتتلاشى ، وحتى قيم الشجاعة والتضحية والشرف ترحل من دلالاتها العملية والواقعية في حياة الناس ، فتتحول بسرعة الى عوالم اسطورية بعيدة ، تُعجب الناس كفرجة وقصة ، دون ان يرغب احد في عيشها ، او السماح لها بالتحكم في حياته.
بسرعة تمر هذه الايام ذكرى الاستقلالات الوطنية ، لا يتوقف احد طويلا عند معناها بالامس ومعناها اليوم ، بالاقتصاد والتقنيات والاتصالات ، لم يعد استقلال الجماعة البشرية يعني ما كان يعنيه ، عند تحققه للمرة الاولى ، فلا السيادة سيادة ، ولا الهويات الموحدة ظلت تشع بقيمتها امام ثقافات مفتوحة ، واخرى جديدة تتكون.
لأفراد الجماعة نمط حياتهم الخاص ، ولهم مصادر ايمانهم وعقائدهم ، وللجماعة وافرادها ايضا ، وبسبب نمط العيش ، منظومة قيم اخلاقية واجتماعية ، يلتزم بها الجميع في علاقاتهم بينهم ، ويلتزمون بها في علاقاتهم مع الافراد ، وهذا كله هو مبرر استمرار الجماعة وعيشها الخاص ، وهويتها وثقافتها ، استمرار تحميه سيادة تملك وسائل العيش ونمطه واسلوبه ، فان تغير او اختفى ، تغيرت السيادة او تلاشت.
حين تعجز الجماعة البشرية ، بدائية كانت ام متقدمة ، عن ابتكار بدائل ووسائل ، وتؤهلها لمواجهة ما يحدث من متغيرات وتطورات جارفة او صغيرة متراكمة ، فلا مصير لها سوى الفناء والتلاشي ، اذ تموت الجماعة ، بنمط عيشها وثقافتها وسيادتها ، بالذوبان والاندماج في كيان ، او كيانات ، اخرى مختلفة ، قادرة على تأمين اسباب البقاء للافراد ، تختفي الجماعة ، بحس ب منطق الغالب والمغلوب ، ويبقى الافراد ، ولكنهم افراد اخرون ، بعيش اخر ، وبثقافة اخرى.
يقال ان من يستطيع تغيير ما بنفسه هو انسان حر. ولكن كيف يمكن للجماعة ان تبقى حرة حين تنقسم على نفسها؟.
هذه امة خُلعت اضلاع قفصها الصدري ، فانكشفت رئتاها امام البحر والاساطيل. وهي اليوم تحاول من خلال هذه الانتفاضة أن تحافظ على ما تبقى من ضلوع صدرها المفتوح على المتوسط.