عسكرة الجغرافيا !!

كلاهما، لم يخلع الخوذة يوماً الا ليحك رأسه قليلا، ويعيد حساباته في هدنة عابرة .. فالتاريخ كما يقول واحد من أشهر رواته وهو ويل ديورانت كان على الدوام حرباً مستمرة، وقد يفاجأ الناس بعدد الحروب التي خيضت على هذا الكوكب وفق احصاء أولي.. بحيث يبدو السلام أو ما يسمى كذلك مجرد جملة معترضة سرعان ما يحذفها السياق العسكري من كتاب الارض..
ومنذ حرب الخليج الثانية تمت عسكرة الدبلوماسية، لتدخل حقبة جديدة لا مجال فيها لما هو ناعم أو تقليدي، وفي حرب الخليج الثالثة لا الأخيرة وضعت كوندليزا على شعر رأسها خوذة التقطتها من احد الجنود الامريكيين وهي على متن طائرة في سماء بغداد، وبذلك اصبحت عسكرة الدبلوماسية قراراً واضحاً، لأن ما فعلته رايس بارتداء الخوذة ليس طقساً في حفلة تنكرية بأعياد رأس السنة العراقية، بقدر ما هو تعبير مزدوج عن موقف سوف يتحول الى مناخ دولي.
وعسكرة الجغرافيا لا تعني فقط تحولها الى مجالات حيوية لتجريب الاسلحة واختبار منسوب القوة لدى هذا الطرف أو ذاك.. هذا اذا صدقنا بأن هناك في عالمنا جغرافيا بمعزل عن التاريخ فما يقوله أبرز المؤرخين الجدد في العالم هو ان التاريخ نفسه جغرافيا، لكن اصابه التخثر والتصلب!
كثير من العرب لم يسمعوا قبل احتلال فلسطين بأسماء مئات القرى والأمكنة، ومن كانوا يذهبون للاصطياف في رام الله وربوعها قبل عام 1967 لم يعرفوا على الاطلاق ان هناك مخيمات في غزة تحمل اسماء تبدو كما لو أنها من كوكب آخر، ولولا ذلك الدم الذي سال في قانا لبقي اسمها طي النسيان ولا أعرف كم من العرب عرفوا ذات يوم ان هناك مدناً وقرى ونجوعاً في مصر وتونس وليبيا تحولت الى ميادين حرب لولا ما جرى من حراك عنيف وشبه مفاجىء للجميع..
فهل نشكر الاحتلالات على اختلاف مصادرها لأنها تحولت الى معلمين في درس الجغرافيا القومية، بحيث نعرف ان هناك مدناً اسمها اجدافيا ومصراته والبريقة وأخيرا راس لانوف؟
ان خرائط الجغرافيا الاولى وتضاريس هذا العالم رسمت لاول مرة بروث خيول الغزاة ثم رسمت بعد ذلك بالسكك الحديدية كما فعل الانجليز في مستعمراتهم ابان الامبراطورية التي غابت عنها الشمس، وما تفعله اسرائيل بشبكة المواصلات العازلة للمدن والقرى الفلسطينية.
ان ما كان مجرد مسودات لهذه الخرائط تولت طائرات الفانتوم والاباتشي وصواريخ كروز تحويله الى تضاريس عسكرية لها مقياس رسم وحيد هو الدم..
فهل كان قدرنا كعرب ان نتعلم المسكوت عنه من تاريخنا عبر ما كتبه المستشرقون بدءاً من نيبور وفان ديك وليس انتهاء بمن اكتشفوا مجازر مجهولة من طراز الطنطورة!
وان نتلقى دروساً في الجغرافيا عبر الفانتوم وبي 52 والشبح والاباتشي، مقترنة بوسائل ايضاح يراها حتى العميان بما تحدثه من ثقوب وعيون في اجسادهم!
لقد مرّ بنا وقت رفعنا فيه شعار اعرف عدوك، وأذكر ان الراحل د. شاكر مصطفى وهو اكاديمي في التاريخ كان ممن ألحوا على هذا الشعار عام 1967 بعد الهزيمة.. ثم اتضح أننا بحاجة الى معرفة أنفسنا وتضاريس بلادنا اولا، لكن ما حدث بعد عولمة الشقاء ونزع الدسم الوطني من عالم تحول الى رهينة هو أننا جهلنا الاثنين معاَ.. أنفسنا واعداءنا..(الدستور)