سورية.. الأمن والسياسة
ابتداء, ليس صحيحا ان مقاربة السياسة الخارجية والاستراتيجيات الكبرى للدول بادوات امنية, اختراع (اشتراكي) ينسب الى الاتحاد السوفييتي وبلدان المعسكر الاشتراكي ومنها التجارب العربية (عبدالناصر, البعث في سورية والعراق, الجزائر, وليبيا).. فحيث ارتبطت هذه المعادلة (اشتراكيا) بالايديولوجيا, على الاقل, فان الادارات الامريكية وقبلها الانجليز والفرنسيون استخدموا هذه المقاربة, على الناشف.
واذا كانت تجربة الدول الكبرى التي استكملت دورتها كدول ناجزة شكلت مراجعة دورية لضبط العلاقة بين الامن والسياسة, فقد افتقدت الدول الاخرى لهذا الشرط الاجتماعي مما فاقم من تغول الامن على السياسة بالاضافة للضغط المستمر في مناطق توتر وصراعات اقليمية ودولية اعلت من دور الاجهزة ونفوذها والحقت الجميع بها وانتجت ظاهرة النظام الامني..
وفيما يخص الحالات العربية فقد استقى هذا النظام نفوذه من الفسيفساء الطائفية والقبلية والمجاميع الناقصة التي لم تتحول الى مجتمعات مدنية ولم تكرس حياة حزبية حقيقية تضع حدا لعبادة الفرد وسطوة الاجهزة الامنية وثقافة الولاء الاعمى في اوساط النظام...
كما توزع النظام الامني العربي بين خيارين: إما الانخراط في المنظومة الامنية لتحالفاته الامريكية والرأسمالية عموما واما الانخراط فيما بات يعرف بمعسكر الممانعة (سورية) وكذلك ليبيا قبل التسوية التي عقدها سيف الاسلام مع الامريكان قبل عدة سنوات لوراثة جماهيرية والده واستبدالها بجمهورية صديقة لواشنطن وتل ابيب, وكان موسى كوسا وشكري غانم عرَّابي هذه التسوية..
ومن المفهوم ان تغول الامن على السياسة في كل هذه الحالات اسس ايضا لجماعات مصالح مختلفة تضع يدها على المسدس كلما سمعت بالديمقراطية وحقوق الانسان وتداول السلطة.. الخ مما يفسر القواسم المشتركة في سلوك كل اجهزة الامن العربية واذا كان من ملاحظات ضرورية هنا فابرزها ما يتعلق بسورية:-
1- ان النظام السوري بنى استراتيجية على التوازن الدولي الذي انهار عام 1990 وترك تداعيات خطيرة منذ مدريد الى اتفاقيات اوسلو ووادي عربة الى العدوان على العراق وتهديد سورية نفسها من قبل الامريكان وجماعتهم في المنطقة... وهو ما شكل مناخا لتزايد نفوذ الاجهزة الامنية وسطوتها على السياسة والحاق الجميع بها..
وكان ملاحظا ايضا انه باستثناءات قليلة فان رجال هذه الاجهزة بحكم عملهم في اطار (الاستراتيجيات) السورية (التحالفات الاقليمية والدفاع خارج الاسوار) كانوا اكثر حساسية للضغوط السياسية من رجال السياسة والحزب الذي تحولوا في الغالب, الى ملاحق ديكورية للنظام الامني.
2- ان الخطاب العام لهذا النظام بقدر ما يعكس جوانب حقيقية من المخاطر الفعلية على سورية برمتها فهو غالبا ما يسوق على نحو فج اكراهي وسخيف لا يتدارك نفسه الا بوضع اليد على المسدس واطلاق النار في الشارع بل والذهاب الى الكمائن وحقل الالغام بقدميه, وبدلا من ان يلعب دور الاطفائي يصب الزيت على النار التي تمتد الى ثوبه سريعا ولا ينفع هذا الخطاب في التقليل من حجم المعارضة وتضخيم المؤامرة فالمعارضة موجودة ومشروعة ايضا, والمؤامرة موجودة وخطيرة تمتد من تل ابيب الى واشنطن وعصابات عكار ورائحة النفط المعروفة..
3- ما هو مطلوب في المحصلة اعادة انتاج الاستراتيجيات السورية الصحيحة والمجربة والتي تشكل رافعة لكل المنطقة والمصالح العربية, اعادة انتاجها في خطاب سياسي يدمج المعارضة فيه ويلحق الادوات الامنية فيه بدلا من ان يلتحق بها.(العرب اليوم)