تنمية سياسية وأنيميا ثقافية!
محكوم على التنميات كلها ان تتحول الى انيميات اذا كانت منزوعة الثقافة والوعي. فلا سياسة ولا اقتصاد ولا تربية يمكن لها ان تستوي وتبدأ من اسس سليمة اذا لم تكن الثقافة خميرتها لكن الثقافة كمفهوم في عالمنا العربي بحاجة الى اعادة تعريف شأن العديد من الظواهر كالفقر والصحة العقلية ووعي الاخر بعيدا عن اعتباره عدوا محتملا او عدوا بالقوة حسب التعبير الفيزيائي الى ان يثبت عكس ذلك.
وما يزال الكثيرون يرون في الثقافة تخصصا يحتكره اكاديميون او ادباء، والحقيقة هي بخلاف ذلك تماما، لان الثقافة مناخ مبثوث في حياة الناس، ولا تتوقف عند انماط التفكير، لانها انماط سلوك ايضا، وثمة في الغرب من يستخدمون مصطلح الثقافة مرادفا للحضارة كلها.
وفي مجتمعات منكوبة كالعالم العربي حيث تتجاوز نسبة الامية في بعض الاقطار السبعين بالمئة فان تأهيل الانسان لوعي حقوقه وواجباته واستحقاق المواطنة بديلا للرعية لا يمكن له ان يتحقق بعيدا عن الورق اذا لم يكن مبتدأه الثقافة.. وكل ما سوف يأتي هو بمثابة الخبر في هذه الجملة الانسانية، ولا ندري لماذا تواصل المؤسسات العربية إصرارها على التعامل مع الثقافة باعتبارها الحائط الاوطأ من كل الحيطان، فهي أحيانا مجرد اكسسوارات في مناسبات موسمية، وأحيانا عربات تجرها خيول الإعلام إلى حيث شاءت، وهنا علينا ان نعترف بان المؤسسات والدول لا تتحمل وحدها مسؤولية تهميش الثقافة، فالنخب التي تحظى بهذا اللقب رغم شحة استحقاقه ساهمت في هذا التهميش منذ قبل من يوصف مجازا وفي مجتمعات تجتاحها الامية بالمثقف ان يكون مجرد كومبارس في جوقة، او ببغاء لا صوت له الا ما يردده من صدى اصوات اخرى تعلفه وترعاه، وذلك ليس من اجل دوره الفاعل بل لكي يصبح فرجة للزوار في مدخل البيت الانيق!.
والثقافة ليست، كما يتصور البعض، أكواما من الكتب في الأكشاك وعلى الأرصفة أو شهادات أكاديمية أحيانا تكون نموذجا للتجهيل المنهجي والمبرمج، إنها خلاصة وعي جماعي وفردي بالتاريخ والمحيط وما ينتجه الاخرون الذين يقاسموننا العصر ذاته، وقبل ان نتحدث عما يسمى ثقافة صحية او سياسية علينا ان نتذكر ما هو ابعد من هذا التوصيف والخصخصة للثقافة فهي لن تكون صحية أو سياسية أو حتى رياضية اذا لم تكن تجذيراً للوعي، وتقطيراً لكثافة الخبرات الموروثة والمنقولة معاً، لأن المحاكاة لا تصنع ثقافة، والترجمة أيضا قد تصبح مطراً في غربال اذا لم يكن لدى المجتمع حاضنات واستعدادات لاستيعاب ما تقدمه.
فالعرب ترجموا ذات يوم مصطلحات مثل الكوميديا والتراجيديا عن اليونانيين على أنها مديح وهجاء أو رثاء، وحين ترجم بعض العرب في النصف الاول من القرن العشرين روايات وفلسفات، وقفوا حائرين أمام بعض المنجزات الحضارية، فترجم بعضهم اسماء كل آلات العزف الى معزف، وأكثر من عشرين نوعا من الزهور الى وردة، ومنهم من حمّل العصفور فأساً كي ينقر به الليل بحثاً عن الفجر، فكانت الصورة كاريكاتورية لأنه ما من عصفور يقوى على حمل قشة بحجمه فكيف يحمل فأساً؟.
ان التصور الكمي أو التراكمي للثقافة هو ما جعلها على هذا النحو الحاسوبي بلا رؤى أو سياقات وأنساق، فلا غرابة اذن أن يكون المثقف الموسمي ابن الالفية الثالثة قبل الظهر وابن القرن الثامن عشر في المساء..!!.
وهذه مناسبة ايضاً للتذكير بأن كل تنمية سواء تعلقت بالسياسة أو الثقافة أو اي مجال آخر تفترض وجود البذرة أولاً والتربة الملائمة لنموها ثانيا، والماء الكافي لسقايتها ثالثاً.. وما من نبات شيطاني يقبل مثل هذه التنمية الا اذا قبلت لعبة المطاط أن تنمو وتتكلم اذا امتلأ جوفها الميت بالحليب!!.(الدستور)