نخاع الثورات
ما يكتبه البعض ممن لا يجيدون قراءة التاريخ والحاضر ايضا، اضافة الى قصور في الخيال يحرمهم من استشعار القادم يبدو كما لو انه تصفية حسابات عشوائية مع الثقافة العربية والمثقفين، وكأن ما يجري الان وفي كل اوان نباتا شيطانيا منقطعا عن كل ما مضى، وحين تجري المقارنات عشوائيا ايضا مع الثورات الكبرى او الكوبرنيكية في التاريخ يتم حذف الجذر المعرفي لتلك الثورات، فالثورة الفرنسية لم يضعها الزاحفون الى الباستيل وحدهم وكذلك الثورة الامريكية وثورة اكتوبر الروسية وثورة يوليو المصرية، تلك الثورات مهد لها وعبد الطرق الوعرة اليها مفكرون ورواد وفنانون منهم من حرم من الدفن في ارضه كما حدث لفولتير ومنهم من القي رأسه في سلة النفايات كعالم الفيزياء لافوازييه.
ومنهم من احرق حيا او عاش حتى الموت في منفاه.. وحين يقال ان فلانا الروائي او الفيلسوف او الشاعر خرج من معطف فلان الذي سبقه فالمقصود بذلك ابعد من رسم بياني لسلالات الابداع، اذ لولا ذلك الجذر لما نهض هذا الجذع ونبتت عليه الاغصان وبالتالي العناقيد.
لم يكن عبدالناصر منقطعا عن احمد عرابي الذي ثار على الخديوي ودفع الثمن اذ تعفن في بيته بلا دفن وبصق عليه احد المارة وهو ذاهب لاداء صلاة الفجر.
ولا يمكن حذف سعد زغلول وثورة عام 1919 وريادة طلعت حرب ودوره العظيم في التحديث والاقتصاد الوطني من اي حراك مصري ومعمار الهرم يتولى الاجابة فلا رأس بلا قاعدة وسفوح.
ما يحدث الان في العالم العربي قد يكون مثقفو ربع الساعة الاخيرة غائبين عنه، لانهم اخر من يعلم بسبب انتهاكهم في البحث عن فضائيات ترمم النقص في ابداعهم او عن علاقات عامة تسعى الى جراحات تجميلية لكل ما افسده الدولار والدينار واليورو وسائر العملات!.
من يزعم الان ان الكواكبي ورشيد رضا وحتى جمال الافغاني وسليمان الحلبي وحافظ ابراهيم ونجيب سرور وامل دنقل خارج المشهد؟
وقد اذهب الى ما هو ابعد واقدم فالمح ابن اياس والجبرتي وحتى ابن خلدون في خلفية المشهد.
الثقافة المطرودة من حياتنا العربية بالعصا والبنادق والتجويع، تحولت الى ناي ضاع صوته تحت ضجيج قرع الطبول، وحين سمعت في طفولتي من والدتي عبارة طبل وغطى على النايات بقيت مسكوناً بهاجس مزمن هو الخوف من الطبول اذا قرعت لأنها جوفاء.
ان لم تكن الثقافة في بعديها الانساني والتربوي في الصميم من أية ديناميات بشرية فان الحصيلة تصبح في خطر، ويتحول الحلم العظيم الى احتفال موسمي، ويضيق الوطن حتى يصبح بمساحة علم أو نشيد فقط.. ما يحدث ان كان بالفعل افرازاً عضوياًً لغضب أصيل هو نتاج ثقافة مضادة للسائد لهذا فهو ليس مناسبة لتصفية حسابات الأميين وأشباه المتعلمين مع الثقافة التي هي أعمق من اللحم والعظم والدم لأنها النخاع ومكمن المناعة وسر النبض!
من حق شهداء العرب ومن افتدوهم منذ الدم الاول ان يظفروا بباقة ورد في أي انتصار للاحفاد أو احفاد الاحفاد..
وما قاله الفرنسي بول فاليري جدير بالاستذكار في كل مناسبة كهذه.. وهو ان من يشعر للحظة بأنه أطول قامة من أبيه أو جده فلأن أحدهما يحمله على كتفيه..
لقد اشتعلت ثورات عديدة في العالم وكان اختبار جدارتها بالبقاء والتمدد نحو المستقبل نخاعها الثقافي لهذا فان الثورات لا تتجزأ بحيث تكون سياسية أو عسكرية فقط ومن لا يرون الثقافة في هذا المشهد هم الذين لا يعرفونها!!(الدستور)